صدى الواقع اليمني – كتب : عبدالاله الشرجبي
في زمنٍ لم يعُد فيه الصراخ يُجدي، ولم يعُد فيه التظاهر بالحياد سوى شكلٍ آخر من الخيانة، نكتب…
نكتب لا لأن الكلمات ستُغيّر الواقع، بل لأن الصمت بات جريمة تُضاف إلى ركام المآسي. نكتب لأن ما يجري لم يعد مجرد خللٍ في الإدارة أو فسادٍ عابر، بل سقوطٌ شامل لمنظومة بأكملها، احترفت التهام وطنها قطعةً قطعة، حتى غدت الكارثة وجهًا مألوفًا في حياة اليمنيين.
هذا ليس مقالًا للنقد فحسب، بل شهادة مكتوبة على زمنٍ مُهان، سُرقت فيه الجمهورية، واُغتيل فيه الحلم، وتحوّلت فيه الشرعية إلى شركة خاصّة لا تبيع إلا الأوهام. في هذا النص، ننزع الأقنعة، ونعرّي الجرح، ونسأل بمرارة: هل ما زال فينا من لم يختنق من رائحة الخيانة؟
إنه زمنٍ يتهاوى فيه معنى الدولة كما يتهاوى غبارُ الأطلال في مهب الريح، تتساقط الأقنعة واحدًا تلو الآخر، ويُكشَف المستور لمن كان يظن أن في الصمت نجاة. لم يعُد الحديث عن الفساد ترفًا سياسيًا أو تهمة تُرمى في بازار المزايدات، بل صار واقعًا وحقيقة
لقد بلغ العبثُ ذروته، ولم يبقَ للخذلان وجهٌ يستحي به. فهنا، في هذا الركن المعتم من الجغرافيا العربية، تُنهب الأرض باسم الشرعية، وتُستباح الكرامة باسم الوطن، ويُذبح الإنسان بسكينٍ مغطاةٍ بعلم الجمهورية. صار الوطن مطيةً، والحكمُ حرفةً للمتسلقين، والقيادة تجارةً لأصحاب العواصم البديلة والمصالح العابرة للحدود.
هنا، لا حديث عن الإنقاذ… بل عن مسرحية طويلة اسمها: “كيف نُدير الخراب ونربح من رماده”. أما الشعب، فلا دور له إلا أن يكون الضحية المكررة في مشهدٍ يكتبه الفاسدون ويخرجه الجبناء ويصفق له المنافقون.
ما يشهده اليمن اليوم ليس مجرد أزمة اقتصادية، بل سقوط مدوٍ لمنظومة الأخلاق السياسية، وزلزال في الضمير الجمعي لمن يحكمون باسمه ويأكلون من لحمه.
إنه الانهيار الأعظم… لا يشبه أي سقوط اقتصادي عرفته البلاد من قبل، لأن المأساة لا تكمن فقط في فشل السياسات، بل في نية الفساد ذاتها، في تحول الدولة إلى دكان صغير يملكه حفنة من اللصوص، يبيعون فيه الوطن بالتقسيط، ويقايضون دماء الجبهات بفللٍ في أنقرة، أو حسابات مصرفية في كوالالمبور، أو استثمارات في دبي.
من يعوّل الشعب عليهم للخلاص، هم أنفسهم من غرسوا خناجر الخيانة في ظهره. وجوههم مألوفة… تصدّرت الشاشات يومًا بخطب التحرير ووعود البناء، ثم تحوّلت إلى تنانين مالية تلتهم الأخضر واليابس، بينما الوطن يتحول إلى رماد
أي شرعية؟ تلك التي لا تُرى إلا في مؤتمرات الفنادق؟ التي تدير شؤون دولة من منفى، بينما المواطن يبحث عن دبة غاز أو جرعة ماء؟ تلك التي لا تتقن من فنون الحكم سوى فن التوقيع على الصفقات، وفن التهرب من الحساب؟
لقد تحولت القيادة إلى شركة استثمارية، شعارها: “ننهب اليوم، ونتبرأ غدًا”. وزراؤها أصبحوا خبراء عقارات، وسفراؤها تجار شنطة، لا يمثلون وطنًا، بل يمثلون مصالحهم الشخصية، ويمثلون الوهم الكبير: أن هذه الفوضى قابلة للإصلاح!
حتى أولئك الذين بكى الناس من أجلهم، وعلّقوا صورهم على الجدران المهترئة، ورفعوهم في قلوبهم إلى مصاف الأنبياء… عادوا من بوابة المناصب محمّلين بأجندات لا تحمل سوى اسم واحد: “اليمن الضعيف”، لأن اليمن القوي يخيفهم، واليمن المتماسك يفضحهم، واليمن المنتصر لا يمنحهم شيئًا.
كلّ ما حولنا يصرخ:
لا رقابة.
لا محاسبة.
لا نية للإصلاح.
فقط عيون متخمة، وأفواه مفتوحة تلوك الوطن كما يُلوك العلك، حتى جفّت فيه الروح.
فمتى نستيقظ؟
ومتى نكسر هذا الصمت الذي يخنقنا؟
ومتى نعيد تعريف “الشرعية” من كونها شعارًا مشبوهًا، إلى مسؤولية وأمانة؟
الوطن ليس حقيبة تُحمل إلى الفنادق، ولا غنيمة تُوزّع على الولاءات. الوطن، يا سادة، هو ذاك الطفل الذي ينام جائعًا، وتلك الأرملة التي تنتظر معاشًا لا يأتي، وهو ذاك الجندي الذي يدفن صديقه في الصحراء ويعود بلا علم، وهو الفلاح الذي يسقي ترابًا يابسًا بدموعه بدل الماء.
لكن الأخطر أن تنهار القيَم، أن يموت فينا الشعور بالمسؤولية، أن نصبح أمة تتفرج على حريق منزلها وكأنها تشاهد فيلمًا مملًا.لم يعُد المواطن يطمح برفاه، ولا يحلم بعدالة من تلك الوجوه التي تسكن عواصم الغياب، بل بات كل ما يتمناه… أن ينجو من الغرق اليومي في مستنقع العوز، أن يجد قوت أطفاله دون أن يمد يده لمجرم أو متاجر، أن يعيش دون أن يبيع كرامته، أو يتخلى عن إنسانيته في طابور طويل لا ينتهي.
لقد أُنهك هذا الشعب حتى لم يعُد يشعر بشيء… لا الغضب يؤلمه، ولا الصمت يحميه. يقف على حافة الحياة مثل ظلٍ باهتٍ لوطنٍ لم يعُد يشبهه، وطنٍ يتآكله السماسرة من فوق، وتلتهمه الحاجة .
إنه القهر اليومي، القهر الصامت، القهر الذي لا يُبث في نشرات الأخبار، ولا يتصدر تقارير المنظمات… إنه قهر الجائع حين يرى اللص في صدر المنصة، وقهر المقاتل حين يدفع دمه ثمنًا لقصور الآخرين.
أيها السادة الذين تحكمون من بعيد:
كفّوا عن التمثيل… فالمسرح يحترق، والجمهور ينزف، والدم على الأرض أصدق من شعاراتكم.
سيأتي يوم…
يُكتب فيه تاريخ هذا العبث سطرًا سطرًا، لا بأقلامكم الملوثة، بل بأصابع المتعبين الذين ما خانوا، ولا سرقوا، ولا تنكروا لوطنهم.
وحينها فقط…
سنعرف أن الخراب الذي عشناه لم يكن قدرًا، بل جريمة…
وأن الصمت الذي طال، كان خيانة…
وأن الوطن لم يمت، بل أُغمي عليه من فرط ما نُهش جسده.
فإما أن نستفيق، أو نمضي حفاة في جنازته… ونحن نحمل مشانقنا في جيوبنا، ونصفق للجلاد!
فهل نبقى شهود زور؟
أم نكون، أخيرًا، شعبًا يكتب الفصل الأخير بيده لا بيد غيره؟