صدى الواقع اليمني - تقرير: حسين الشدادي
في زاوية من زوايا مستشفى الأمراض النفسية والعقلية بتعز، يجلس "أبو محمد" يراقب ابنه البالغ من العمر 17 عامًا، الذي يعاني من نوبات صرع متكررة منذ أن قُتل شقيقه في غارة جوية قبل عامين، يقول الأب بمرارة: "جربنا كل العلاجات، لكننا نعتمد على المساعدات الطارئة... الأدوية غير كافية". هذه الحالة ليست فردية، بل جزء من موجة متصاعدة من الاضطرابات النفسية والعقلية تجتاح المحافظة، التي تشهد واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في اليمن.
وفقًا لتقرير صادر عن مكتب وزارة الصحة بتعز، ارتفع عدد الحالات المُسجلة في مستشفى الأمراض النفسية خلال عام 2024 إلى 8,602 حالة، مقارنة بـ 6,520 حالة في عام 2023.
وتُظهر الأرقام أن مرضى الصرع يحتلون الصدارة بـ 2,012 حالة، تليها اضطرابات القلق والاكتئاب.
لكن هذه الإحصائيات لا تعكس الواقع الكامل، إذ يُعتقد أن آلاف الحالات الأخرى لم تصل إلى المراكز الطبية بسبب الفقر أو الوصمة الاجتماعية.
الحرب.. العامل الأكبر في تدمير الصحة العقلية
تشكل الحرب المستمرة منذ تسع سنوات الخلفية الرئيسية لتفاقم الأزمة، فتعز، التي تحولت إلى ساحة للمواجهات بين الأطراف المتصارعة، تعاني من دمار البنية التحتية وانهيار الخدمات الأساسية.
تقول الدكتورة "ندى الشرفي"، أخصائية نفسية في المستشفى: "المرضى الذين نستقبلهم يعانون من صدمات مركبة: فقدان الأهل، النزوح، التعذيب، أو حتى مشاهداتهم لجثث في الشوارع".
وتُشير البيانات إلى أن 75% من الحالات المُسجلة مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالصراع، حيث يعاني الكثيرون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، خاصة بين الأطفال والنساء، ففي عام 2024، تم تسجيل 1,200 حالة PTSD بين النازحين الذين فروا من مناطق القتال إلى تعز.
النزوح.. معاناة مزدوجة
يعيش أكثر من 2 مليون نازح في محافظة تعز، وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة للاجئين، هؤلاء النازحون، الذين يُشكلون 40% من سكان المحافظة، يعانون من ظروف معيشية قاسية في مخيمات تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.
تقول "أم علي"، نازحة من الحديدة: "ننام على الأرض بين الحشرات، ولا نملك مالًا لشراء الطعام... كيف لا نصاب بأمراض نفسية؟".
الأسباب الاقتصادية.. دوامة الفقر والجوع
مع استمرار الحرب، انخفضت قيمة الريال اليمني بنسبة 600% منذ 2015، مما أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية، وفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، يعيش 80% من سكان تعز تحت خط الفقر، ويواجه 50% منهم انعدامًا غذائيًا حادًا.
يقول "أحمد الوائلي"، بائع متجول: "أعمل 12 ساعة يوميًا لأجمع ثمن رغيف خبز لعائلتي... هذا الضغط دفعني إلى التفكير في الانتحار مرات عديدة".
البطالة وفقدان سبل العيش
أغلقت معظم المصانع والشركات في تعز أبوابها، وارتفعت معدلات البطالة إلى 85% بين الذكور و93% بين الإناث، يُعاني الشباب تحديدًا من شعور بالعجز، حيث يقول "محمد عبد الله" (24 عامًا): "حصلت على شهادة جامعية منذ ثلاث سنوات، لكنني لا أجد عملًا... أشعر أنني عبء على أسرتي".
نظام صحي منهك.. بين نقص الإمكانيات والوصمة الاجتماعية
يعد مستشفى الأمراض النفسية والعقلية في تعز المنشأة الحكومية الوحيدة المتخصصة، لكنه يعمل بطاقة استيعابية لا تتجاوز 10% من الاحتياج الفعلي.
يقول مدير المستشفى الدكتور "عادل ملهي": "لدينا 210 سريرًا فقط، بينما عدد المراجعين اليومي يتجاوز 100 مريض... نضطر لعلاج الحالات الحرجة فقط".
وتُعيق مشكلات نقص الكوادر عمل المستشفى حيث يعمل في المستشفى 5 أطباء نفسيين فقط، بينما يحتاج إلى 20 طبيبًا على الأقل.
كما أن الأدوية الأساسية تتوفر بنسبة 30%، ولا توجد أدوية للاضطرابات النادرة.
إلى ذلك فإن الميزانية التشغيلية الشهرية لا تتجاوز 5 ملايين ريال (حوالي 2,000 دولار)، وهي غير كافية حتى لشراء المستلزمات الطبية.
الوصمة الاجتماعية.. حاجز غير مرئي
لا يزال المرض النفسي في تعز مُحاطًا بوصمة عار تجعل الكثيرين يرفضون الاعتراف بالمرض أو طلب العلاج.
تقول "سميرة" (32 عامًا)، مريضة اكتئاب: "عائلتي أخفت مرضي عن الجيران خوفًا من أن يُقال إني مجنونة... تعالجت سرًا لمدة عامين".
وفقًا لدراسة أجرتها منظمة "سي إن إن" الإنسانية في 2023، فإن 70% من السكان يعتقدون أن الأمراض النفسية ناتجة عن "مس شيطاني" أو "ضعف إيمان"، مما يدفع البعض إلى اللجوء للمشعوذين بدلًا من الأطباء.
قصص إنسانية.. وجوه وراء الأرقام
تشكل حالات الأطفال 25% من إجمالي المرضى، ويعاني الكثيرون منهم من صعوبات في النطق أو التبول اللاإرادي بسبب الصدمات، "يوسف" (10 أعوام) فقد والدته في قصف عام 2022، ولم ينطق بكلمة منذ ذلك الحين.
تقول جدته: "ينام وهو يصرخ، ويرفض تناول الطعام... الأطباء يقولون إنه يحتاج إلى جلسات علاجية مكثفة، لكننا لا نستطيع تحمل تكاليفها".
النساء.. معاناة مضاعفة
تُشكل النساء 35% من الحالات المُسجلة، لكن الخبراء يؤكدون أن النسبة الفعلية أعلى، نظرًا لتردد الكثيرات في الإفصاح عن معاناتهن بسبب العادات الاجتماعية، "فاطمة" (28 عامًا) تعرضت للعنف الأسري من قبل زوجها، الذي أجبرها على النزوح وحدها مع أطفالها الثلاثة.
تقول: "أشعر بالذنب لأنني لا أستطيع إطعام أطفالي... أفكر يوميًا في إنهاء حياتي".
مبادرات محلية وجهود دولية.. إضاءات في النفق المظلم
في محاولة لتخفيف الأعباء، افتتحت مؤسسة "توكل كرمان" الدولية مركز "رعاية" للعلاج الطبيعي والتأهيل النفسي عام 2023.
يقدم المركز خدمات مجانية لـ 500 مريض شهريًا، ويركز على ضحايا الحرب والألغام.
يقول مدير المركز: "نسعى لتعزيز الصمود النفسي للمجتمع، لكن التمويل غير مستقر".
دور الجامعات في بناء الوعي
أطلق قسم الأمراض النفسية في جامعة تعز حملات توعوية شملت 30 مدرسة و15 مسجدًا، بهدف كسر الوصمة، كما درّب القسم 120 طالب طب على أساسيات التشخيص النفسي، لسد جزء من النقص في الكوادر.
توصيات الخبراء.. ماذا يجب أن يحدث؟
على المستوى الحكومي والدولي:
- تخصيص 30% من ميزانية الصحة للصحة النفسية.
- بناء 3 مستشفيات نفسية جديدة في تعز والمحافظات المجاورة.
- إطلاق برنامج طوارئ بالشراكة مع منظمة الصحة العالمية لتوفير الأدوية مجانًا.
2. على مستوى المجتمع المدني:
- إنشاء شبكة من المتطوعين المدربين لتقديم الإسعافات النفسية الأولية.
- إنتاج مواد إعلامية باللغة المحلية لتوعية السكان.
3. على مستوى الأفراد والأسر:
- تشجيع الحوار المفتوح حول الصحة النفسية داخل العائلات.
- تدريب المعلمين وأئمة المساجد على التعامل مع الحالات النفسية.
تعز.. ناقوس خطر يحتاج لاستجابة عاجلة
الأزمة في تعز ليست مجرد أرقام، بل هي قصص إنسانية معقدة تختزل معاناة شعب يعيش تحت وطأة حرب لا تُرى جروحها على الجسد فقط، بل في العقل والروح، بينما تستمر المنظمات الدولية في توجيه غالبية المساعدات نحو الغذاء والدواء (وهو أمر ضروري)، تظل الصحة النفسية القضية الأكثر إهمالًا.
إن إنقاذ جيل كامل من براثن الاكتئاب واليأس يتطلب تحركًا عاجلًا قبل أن تتحول هذه الأزمة إلى كارثة إنسانية يصعب إصلاحها.
إرسال تعليق