صدى الواقع اليمني – كتب : حسين الشدادي

في منطقة السامقة بمديرية المعافر في محافظة تعز، يبرز اسمُ رجلٍ قلّما يجود به الزمان بصفحاته البيضاء في سجلّات الخير والعطاء، إنه الشيخُ جميل عبده أحمد الصهيبي، ذاك الذي حمل على عاتقه مهمة دعم فئة المهمّشين بغير مُنٍّ ولا أذى، ساعيًا إلى رفع معاناتهم، ومتمدّدًا بعطائه ليملأ أركان قلوبهم الأمل والسكينة.
نشأ الشيخ جميل الصهيبي في كنف أسرة يمنية متواضعة، سعى منذ نعومة أظافره إلى التعلّم وزيادة العلم الشرعي والاعتياد على مبادئ التكافل الاجتماعي التي تحتم على الفرد أن يكون سندًا لأخيه الإنسان. تأثر كثيرًا في شبابه بدعوات العلماء إلى الاهتمام بالفقراء والمهمّشين، فآمن بأنّ المجتمع لا يستقيم إلّا إذا وجدَ الإنسانُ العونُ للجائع، والدواءُ للمريض، والمأوى للضائع.
وعلى امتداد السنوات، تجلّت معالمُ هذا النهج جليّةً حينما قرّر الشيخُ جميلُ أن يجعل من مسعاه خدمةَ مسجد التوحيد في منطقة السامقة بوصفه مركزًا روحيًا واجتماعيًا يلتقي فيه الناس للعبادة والتآلف. لم يقتصر دوره على التوجيه الديني، بل امتدّ گستره إلى الجانب المادي أيضًا، فأشرف بنفسه على استكمال بناء جامع التوحيد، فكانت الأساسات الحجرية شاهدةً على حرصه الدؤوب على توفير بيوت الله أفخم ممّا كانت عليه قبل ذلك.
يقول الشيخُ كثيرًا: «المسجدُ بيتُ الرحمن، وقلوبُ الناسِ فيه تتلاقى جواً ونشاطًا؛ لذلك وجبَ علينا أن نُهيّئ له كلّ مقوّمات الراحة والاستقرار». واستنادًا إلى هذا المبدأ، أخذ على عاتقه مشروعًا شاقًا في تلك البقعة الجبلية الوعرة؛ ألا وهو بناء جامع متكامل يليق بمكانة العبادة في نفوس المؤمنين. فقد وفّر الأخشاب والأحجار والآجر، وعَيّن فريقًا من البنّائين والحرفيين المهرة، فتمّ – بفضل الله ثمّ بفضل جهوده وجهودهم – إنجازُ صرحٍ إيماني شامخٍ، استُكمِلته قبةٌ بيضاءٌ، ومئذنةٌ تعانقُ السماء، وجدارٌ منقوشٌ بأيات الذكر الحكيم.
ولم يكتفِ الشيخ جميلُ بذلك، بل قرّر توفير حماماتٍ خاصةٍ بالمسجد؛ حرصًا على التيسير على المصلين والمحتاجين، خصوصًا أن الكثير من الأهالي كانوا يضطرّون إلى التنقل لمسافات بعيدة لقضاء حاجاتهم. ففي زمنٍ يشتدّ فيه جفافُ المياه، يُعدّ إنشاء هذه المرافق خطوةً إنسانية رائدة، تكشف عن مدى حرصه على راحة أبناء منطقته، ويقول الشيخ في هذا الصدد: «إذا كانت الروحُ تبحثُ عن الصفاء في الصلاة، فلابدّ أن يجدَ الجسم كذلكُ معنى النقاء والراحة عندما يدخلُ بيتَ الله».
لم يقتصر دور الشيخ جميل على البنية التحتية للمسجد، بل شمل أيضًا تأثيثه فكاملًا، فقد اختار بعنايةٍ مفرطةٍ طاولاتٍ وكسوةً جديدةً للمصاحف والمقاعد، وصلى بنفسه على فرشِ الحرم حتى باتت زوايا المسجد تنطق حلاوةً وبياضًا، لدرجة أنّ الزائر ما إن يقفَ على أعتاب الجامع، حتى يغمُر قلبه شعورٌ بالتقديس والطهارة. كل ذلك كان على نفقته الخاصة، ولم يطلب من أحدٍ – قطّ – سوى الدعاء والبركة.
وحينما سأله بعضُ من يرى هذه الجهودَ: «ما سرّ هذه العطايا؟»، انهمك في الرد مبتسمًا: «ليس لي جزاءٌ في الدنيا، إنّما أسعى بقدر ما أستطيع لتكون قلوبُ الناس صافية، ومساجدُهم جليلةً، فإن اجتمع المؤمنون على الخير، حماه الله، وأدام عليهم نعمه».
تتوالى الشهاداتُ من أبناء فئة المهمّشين في منطقة السامقة، الذين وجدوا في الشيخ جميل الصهيبي ملاذًا وأبًا روحيًا. فقد عبّر عاقلُ قريةِ السامقة، هيثم محمد سيف مقبل، عن امتنانه قائلاً:
«إنّ الشيخ جميلًا له مكانةٌ خاصةٌ في قلوبنا. لم يفرق بين غني وفقير، ولم يكلّفنا بشكر، بل نحن جميعًا ممتنون له. بنى لنا جامع التوحيد، ووفّر لنا راحة المصلي، وسيظلّ اسمه منقوشًا في صفحات حكايتنا».
ويزيدُ الخطيبُ والإمامُ في جامع التوحيد، محبوب عبدالخالق ناجي، مطلقًا أعذب الكلمات تجاهه.
«لقد كان الشيخ جميل الصهيبي نعم المؤسّس للأعمال الخيّرة. أنشأ المسجد، وكسا حيطانه بالخشوع، وسخّرَ وقته وماله لخدمةِ أهل السامقة. إنّه رجلٌ لا يعرفُ التفرقة، يعيش معهم قبلاتهم وأفراحهم، وفي أحزانهم يجدُ الدمعَ مسكبه، وقدّم لهم الدعم متى ما اضطرّ أحدهم للعلاج أو العلاج النفسي حين المرض».
ولا يخفي أحدٌ هنا إعجابه بعفويّته وانسجامه مع كافّة فئات القرية، فهو لا يرى فيهم مهمشين، بَل يرون فيه أبواب الخير مفتوحة لكل محتاجٍ، صغيرًا أم كبيرًا، رجلًا أم امرأةً. وتقول السيدة فاطمة علي صالح، إحدى النازحات من القرى المجاورة والمنتسبة إلى فئة المهمّشين:
«حين أصابني المرض، لم أتردّد في اللجوء إلى الشيخ جميل. لم يطلب مني هديةً أو مقابلًا، بل اتصل بنفسه للمشفى، وساهم في دفع تكاليف العلاج، حتى تكلّلت علاجي بالشفاء بفضل الله، ثم بفضله».
إنّ مسيرة الشيخ جميل عبده أحمد الصهيبي في مجال الأعمال الخيرية لا تقف عند حدود إقامة المساجد وتوفير مرافقها، بل تمتدّ إلى كلّ جانب من جوانب الحياة اليومية لأهالي السامقة. فهو يحضر مأدبات الزواج لأفقر العائلات، ويقاسمهم فرحتهم، ويواسيهم في مصابهم. فإذا حلّت جنازةٌ في القرية، تجده واقفًا إلى جانب أهل الميت، يشاركهم العزاء، ويحتفل معهم بالذكرى السنوية للراحل، فتتحول مظاهر الحزن إلى لحظات تلاقي وتعاون، تذوب فيها الخلافات وتنتشي فيها روح الأخوّة.
ويشير عددٌ من أبناء السامقة إلى أنّ الشيخ جميل لا يكتفي بذلك، بل يقيم حلقاتٍ علميةٍ للأطفال، يعلمهم القراءة والكتابة، ويحثّهم على طلب العلم، ويقدّر تبرعاتٍ بسيطةٍ من المواطنين المحليين، ليجمعها لصالح جيلٍ ناشئٍ وعيٌه بحجم المسؤولية تجاه مجتمعه في غدٍ قريب.
إذا تجوّلنا في أزقّة السامقة، وجدنا بيوتها تملؤها البسمةُ والثقةُ بأنّ هناك من يقف إلى جانبهم، ويؤازرهم في ساعات الضيق. لقد أضحى جامع التوحيد عنوانًا للألفة والتقارب، ومركزًا لتبادل الخبرات، ففيه تُعقد الاجتماعات العائلية الصغيرة، وتُعقد حلقات الذكر، ويقف فيه الفقير والضعيف في ركعةٍ خاشعة، لا يفصله عن الميسور سوى جدرانٍ تذوب أمام شعور المساواة والعطف.
وفي ظل تفاقم الأوضاع الإنسانية في اليمن، وما تعانيه مديرية المعافر بوجهٍ خاصٍّ من حصارٍ وضيقٍ وحملات عسكرية على المعاقل السكان العزل، كان الشيخ جميل رمزًا للمقاومة الهادئة، ولم يرفع سلاحًا، بل رفع لواء الإحسان، فكان حائطَ صدٍّ لأهله، وحرسَ أمانٍ في زمنٍ تسود فيه العداوات. وقد التفت إليه شباب المنطقة، ليتعلّموا منه كيف يكون الإنسان راعٍ لنفسه قبل أن يكون راعٍ لغيره، وكيف يزرع بذور الأمل رغم ضيق العسر.
إنّ الشيخ جميل الصهيبي، برؤيته الإنسانية المتكاملة، أثبت أنّ العمل الخيّر ليس مجرد تبرعٍ ماديٍّ منقطعٍ، بل هو مؤسّسةٌ شرعيةٌ واجتماعية، تُغذّي روح التضامن بين أبناء المجتمع، وتُعري ظواهر التفرقة والاضطهاد. لقد أثبت أنّ الفاعل الخيّر لا يسأل عن منصبٍ أو جاهٍ، بل يسأم من ترفُّع المجد الظاهر، وينشغل بجميل الأثر الباقي في نفوس الناس.
وفي طقس الوفاء، تمنى عاقلُ السامقة وشيخُها المعاصرون أن يرى الله في عمل الشيخ جميل الصهيبي ثوابه، وألهمه القدرة على استكمال مسيرته بالخير والإحسان، ليبقى جامع التوحيد في السامقة شاهدًا على أنَّ الإنصافَ لا يكتمل إلا بتكافل القلوب، وأنّ الذي يبذل المال والجهد من أجل إعلاء قيم الإنسانية، إنما يبني صرحًا باقٍ في الذاكرة المجتمعية، يُلهم الأجيال القادمة أن يكونوا عهدًا للخير والعطاء.