google.com, pub-3455913717300994, DIRECT, f08c47fec0942fa0
صدى الواقع اليمني – كتب : حسين الشدادي
Published from Blogger Prime Android App
في القاهرة، وعلى ضفاف النيل، وفي المقاهي الممتدة بين الزمالك والمعادي، وبين مطاعم المهندسين ومدينة نصر، يتهادى آلاف اليمنيين مع أسرهم، لا يكدر صفوهم همّ ولا تشغلهم قضية، يتعشّون في مطاعم فاخرة، يسهرون حتى الفجر بين نرجيلة وأغنية، يعودون إلى شققهم المفروشة بنعومة الراحة، ثم يغفون حتى تنتصف الشمس كبد السماء. وعند الظهيرة، يعودون إلى ذات الطقوس: مطعم فخم، نزهة في المولات، جلسة قهوة، تسكع في الحدائق، وربما رحلة إلى الإسكندرية أو الأقصر أو أسوان، بينما الوطن الأم يتقيّأ دماءه في صمت.
هؤلاء ليسوا مغتربين كادحين، ولا جرحى حرب، ولا نازحين فرّوا بأرواحهم من جحيم الجبهات؛ إنهم موظفو الحكومة الشرعية اليمنية – أو منتحلو صفاتها – ممن يتقاضون مرتبات شهرية بالدولار من خزينة بلد هو الأشد فقرًا في العالم العربي، بلد يئن منذ أكثر من عشر سنوات تحت وطأة حرب مدمّرة، وتآكل اقتصادي، وانهيار شامل لمؤسسات الدولة.
ما يُثير الذهول ليس أن مئات أو آلاف اليمنيين يعيشون في رفاهية خارج بلادهم، فلكل مغترب الحق في الحياة الكريمة. إنما الفضيحة تكمن في أن أموالهم التي ينفقونها هنا، هي من ميزانية دولة تصرخ في وجه العالم كل يوم: “أنقذونا من المجاعة”، و”ادعموا رواتب الموظفين”، و”مولوا العملة التي تترنح في مهب الريح”.
كل نهاية شهر، تصل تحويلات مالية إلى حساباتهم من البنك المركزي اليمني في عدن، أو من خلال حسابات دبلوماسية، أو عن طريق برامج تمويل دولية تُدار بشبهات فساد. أموال صُرفت لتثبيت مؤسسات الدولة، فإذا بها تُنفق في شقق القاهرة ومقاهيها ومطاعمها، في غياب أي رقابة حقيقية أو محاسبة نزيهة.
هؤلاء الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار في القاهرة، لم يخوضوا معركة في الجوف، ولا رابطوا في مأرب، ولم يُطلقوا طلقة دفاعًا عن تعز أو شبوة أو الضالع، بل إن كثيرًا منهم لا يفقه شيئًا عن الجغرافيا العسكرية أو الإدارية لمناطق الشرعية. هم موظفون اسميّون، يستصدرون قرارات تعيين بوساطات قبلية أو علاقات نافذة، ثم يغادرون إلى العواصم دون مهام فعلية، يعيشون عالة على شعب يقتات التراب.
لا يمكن الحديث عن هذه الظاهرة دون مساءلة رأس الهرم في الحكومة اليمنية الشرعية، التي باتت ترعى شبكة فساد إداري ومالي تتسع كل يوم. كيف تُصرف هذه الرواتب؟ من يراقب؟ من يُحاسب؟ وأين دور وزارة الخدمة المدنية؟ أين دور الرقابة والتفتيش؟ أين دور البرلمان المغيّب عمدًا؟
منح الحكومة الشرعية لهذه الامتيازات لهؤلاء الموظفين في الخارج يُظهر مدى الانفصام بين النخب السياسية الحاكمة وبين معاناة الشارع اليمني. فبينما يُقتل أبناء اليمن في الجبهات أو يموتون جوعًا في القرى، يعيش أولئك في أبراج مكيفة بين القاهرة وعمان واسطنبول، وربما يرفعون شعارات الدفاع عن الشرعية وهم يتهامسون عن أسعار الفلل والمسابح الخاصة.
أما الدول المانحة، فهي الأخرى مطالبة اليوم بمراجعة حساباتها، فمليارات الدولارات التي ضُخّت لدعم “مؤسسات الشرعية” تحوّلت إلى رواتب لوظائف وهمية، أو لتمويل حياة مترفة لنخب فاسدة خارج أرض المعركة. لم يعد الأمر مجرّد فساد إداري، بل تحوّل إلى خيانة وطنية مغلّفة بأختام رسمية.
إن بقاء هذا الوضع على ما هو عليه لا يُهدد فقط ما تبقّى من ثقة في الشرعية اليمنية، بل يُقوّض المعنى نفسه لفكرة الدولة. فما قيمة “الشرعية” حين تُصبح بوابة للنهب؟ وما جدوى الحرب إن كان المنتصر فيها هو الفاسد، لا المقاوم؟
يا أيها المسؤول في الشرعية، ويا من تغرف من مال الشعب المنكوب لتعيش في بحبوحة، اعلم أن كل لقمة تأكلها من تلك الرواتب، وكل ليلة تمضيها في سهر لا مبالٍ، وكل نزهة على حساب جراح اليمنيين، ستكتب في دفتر التاريخ… وسيأتي يوم تُفتح فيه دفاتر الحساب، ولو بعد حين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *