google.com, pub-3455913717300994, DIRECT, f08c47fec0942fa0

صدى الواقع اليمني – كتب :عبدالاله الشرجبي



ليست الدولة ما نراه في الخرائط، بل ما نلمسه في حياتنا اليومية…
في صنبورٍ ينسكب منه الماء لا الوعود،
وفي ضوءٍ لا يخضع لبرنامج تقنين يشبه جدول القهر والألم ،
وفي أسطوانة غاز لا تُشترى بالواسطة ولا تُستبدل بالدم.
في بلادٍ تُشرق فيها الشمس كل يوم على أحياءٍ مغمورة في الظلام،
ويمر ماء  آبار الدولة  قرب بيوتٍ تئن من العطش،
وتُخزّن فيها أنابيب الغاز في بيوت المتنفّذين ،بينما تنتظر الأرامل والأمهات في طوابير طويلة في الأحياء والشوارع العامة…في مثل هذه البلاد، يصبح الحُكم مجرّد عبء،
وتصبح الدولة مخلوقًا خرافيًّا يراه الناس في البيانات، ولا يلمسونه في الحياة.الدولة لا تبدأ من البرلمان، بل من برميل الماء في باحة البيت،ولا من مؤتمرات “دعم الشرعية”، بل من قدرة المواطن على إشعال شعلة طهي دون أن يُشعل غضبه.
وفي اليمن، في تعز تحديدًا، لم تكتفِ السلطة بالتقاعس،
بل أصبحت الخدمة سلعة، والكرامة مزادًا، والحياة مجرد احتمال.
فأيّ دولة هذه، حين يغدو الحطبُ أكثر وفاءً من الحكومة،
وحين تصبح الكهرباء قصة تُروى، لا خدمة تُعاش؟
وأيّ معنى للسيادة حين يُذلّ الناس من أجل قطرة ماء، أو شمعة تقاوم العتمة؟
ليست الدولة تلك التي ترفع شعارات السيادة وتطبع الأوراق الرسمية بشعار النسر، بل الدولة الحقّة، تلك التي تقرع بابك كل صباح بكوب ماءٍ يصل إلى منزلك، وبضوءٍ لا ينطفئ فجأة في قلب العتمة، وبأسطوانة غاز لا تستدعي طابور إذلالٍ ولا وساطة مسؤول.

في فلسفة الدولة، لا يُقاس المجد بعدد المؤتمرات الصحفية، ولا بحجم الخطابات المنبرية، بل بمدى قدرة الحكومة على تأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة لشعبها. الماء، الكهرباء، الغاز… ليست امتيازات تُمنح، بل حقوق تسبق الدساتير، وضرورات تسبق الحوار الوطني.فما معنى الدولة إذا اضطرّ المواطن أن يشتري النور من السوق السوداء؟وما قيمة السيادة إذا انحنت الأمهات لجمع الحطب في زمن الغاز؟وأين تذهب عظمة “الشرعية” إن كانت لا تستطيع أن تملأ خزانًا أو تُنير مصباحًا أو تُطهّر قطرة ماء؟

انظر إلى رواندا، دولة خرجت من مجزرة جماعية وكارثة إنسانية، ومع ذلك استطاعت أن تضمن لمواطنيها الكهرباء والماء وخدمات الصحة والتعليم. لم تُصبح جنة، لكنها أثبتت أن الدولة ليست نبتة في الهواء، بل جذور في الأرض… تبدأ من الخدمة، وتنتهي بالكرامة.
أمّا حين تغيب هذه الخدمات، فلا يبقى من الدولة إلا ذكرى في كتب التربية الوطنية، أو توقيع جاف في أسفل بيان حكومي لا يُسمن ولا يُغني من عطش.
وحين تنعدم هذه الخدمات الأساسية، لا يعود المواطن بحاجة إلى محلل سياسي ليفهم من خان، ولا إلى خبير اقتصادي ليكتشف من نهب. حين يفتح صنبور الماء فلا يجد سوى الهواء، ويطرق مفتاح الكهرباء فلا يأتيه سوى الظلام، ويشتمّ في طابور الغاز رائحة الذلّ لا الوقود… فإنه يصل إلى يقينٍ لا رجعة فيه:
أن لا شيء سيتغيّر ما لم تُقتلع جذور الفساد، وما لم تُجتثّ أيدي من يحميه تحت عباءة الشرعية أو تحت ظلال البنادق.

بل إن المواطن، رغم كل محاولات التضليل، يعلم جيدًا من هو الفاسد الحقيقي، ومن يحميه، ومن يسرق قوته اليومي، من يُذلّه في الطوابير، ومن يحوّل وطنه إلى سوق نخاسة ومزاد علني، يعرض فيه الخدمات  اي كانت  بثمنٍ بخس لمن يدفع أكثر.
يعلم لكنه مكبّل، يراقب بصمت، إلى أن يتحوّل الصمت إلى بركان.
في لحظة العطش لا يُجدي خطاب ولا بيان،
وفي لحظة الظلام لا قيمة لأي وعد مؤجّل،
وفي لحظة الجوع… لا يُطلب من الناس إلا الانفجار.
فالشعوب لا تثور فقط حين تُهان كرامتها، بل حين يُسرق منها “الحق في العيش”… الحق في أن تكون إنسانًا، لا مجرد رقم في كشف النازحين، أو اسم في قوائم المنسيّين.
إن أعظم خيانة ترتكبها الحكومات ليست في الصفقات المشبوهة ولا في نهب المال العام، بل في التخلي عن أبسط واجباتها تجاه المواطن؛ أن تتركه يصارع العطش، ويتصالح مع الظلام، ويتأقلم مع طهو الوجع على نار الحطب.

حين تُختزل “الدولة” في يافطة مكتب، ويُحوّل المواطن إلى مشروع إعانة لا إلى شريك في الوطن، يصبح الصمت جريمة، والاحتجاج طهارة.
تعز لا تحتاج بيانات، بل ماءً نظيفًا، وضوءًا مستقرًا، وغازًا لا يُباع في السوق السوداء…
تحتاج دولة لا تخجل من النزول إلى الشارع، من أن تمسح العرق عن جبين الأمهات، وتعيد للكرامة مكانها في تفاصيل اليوم.
فلا يُطلب من الناس أن يسكتوا إلى الأبد، ولا من الجياع أن يُنشدوا قصائد الولاء.
الشعوب قد تصبر… لكنها لا تنسى، وحين تنفجر، لا تسأل عن البيانات، بل تقتلع جذور الخذلان من الأعماق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *