صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي – رئيس التحرير

في اللحظة التي دوّى فيها دوي القصف الأميركي على منشآت إيرانية داخل حدودها السيادية، بدا وكأن عقارب الساعة قد أعيد ضبطها في طهران، لا إلى الوراء فحسب، بل إلى مستقبلٍ غامضٍ مشوبٍ بالحذر والعزلة، والبحث عن معادلات جديدة في عالم السياسة الدولية المضطرب، لم يكن القصف مجرد ضربة عسكرية عابرة، بل رسالة استراتيجية أعادت ترتيب أولويات الجمهورية الإسلامية في ساحة التفاوض، وجعلتها تعيد النظر في تكتيكاتها وتوقيتاتها، وهي التي طالما تغنت بالصبر الاستراتيجي وبراعتها في اللعب على حافة الهاوية.

فها هي اليوم، بحسب ما يؤكده خبراء ومحللون، لم تعد متحمسة للانخراط في مفاوضات جديدة مع الغرب، لا لأنها ترفض مبدأ التفاوض، بل لأنها لا تريد التفاوض من موقع الضعف، بعد أن فقدت أوراقاً كانت تلوّح بها ذات يوم كأنها أوراق قوة لا تقهر.

إيران بين انطفاء الرهان القديم وبحث عن أوراق جديدة





تصريحات المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي تؤكد أن طهران لم تحسم قرارها بعد بشأن العودة إلى طاولة المفاوضات، خاصة مع الدول الأوروبية التي لا تزال تحتفظ معها بعلاقات دبلوماسية. لكنها في الوقت ذاته، لا تبدي أي ثقة في الولايات المتحدة، التي توصف سياستها في طهران بأنها متقلبة وغير موثوقة.

وفي المقابل، فإن اللهجة الأميركية بدت هذه المرة أكثر صرامة، فالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أعلنها بوضوح: “لا تفاوض، ولا عروض لإيران”. بل ذهب أبعد من ذلك ملوّحًا بخيارات عسكرية مباشرة إن مضت طهران نحو تطوير سلاح نووي. وهي رسالة مزدوجة: تحذير وردع، وإغلاق لباب الدبلوماسية حتى إشعار آخر.

تصعيد متبادل.. وأوروبا تدعو للتهدئة





وفي خضم هذا التجاذب، وقفت الدول الأوروبية الثلاث – فرنسا وألمانيا وبريطانيا – في موقع المنتقد الحذر، حين نددت علناً بتهديدات طهران للمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، داعية إياها للعودة إلى التعاون الكامل والفوري مع الوكالة، وفق التزاماتها القانونية. إلا أن هذه الدعوات الأوروبية، ورغم وضوحها، لم تحظَ بردّ إيراني إيجابي، ما يشي بأن طهران لا ترى في الوقت الراهن بيئة ملائمة لأي تفاوض تقليدي.

فايز: إيران لا تفاوض من تحت الركام





مدير مكتب الجزيرة في طهران، عبد القادر فايز، رسم في مداخلته خلال برنامج “ما وراء الخبر”، صورة دقيقة للمشهد الإيراني. إذ أشار إلى أن طهران تعتبر أن توقيت المفاوضات الآن لا يخدم مصالحها، فهي بعد القصف الأميركي باتت في وضع حساس داخلياً وخارجياً. وهي تخشى أن يُنظر إليها كدولة تُهزم عسكرياً ثم تذهب للتفاوض خالية الوفاض.

وقال فايز: 

“إيران بحاجة لبناء حالة تفاوضية جديدة. وهي تدرك أن أي مفاوضات الآن ستكون وهي في أضعف حالاتها، بعد أن فَقَدَت أوراقَ ضغطٍ استراتيجية كانت تملكها”.

من هنا، تحاول طهران أن تخلق واقعًا جديدًا عبر التلويح بتعليق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وربما مراجعة التزاماتها في إطار معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ناهيك عن احتفاظها بمخزون كبير من اليورانيوم عالي التخصيب، الذي أصبح ورقة شديدة الحساسية في أي حوار مقبل.

لقاء مكي: إيران تناور على الحافة الزمنية





أما الدكتور لقاء مكي، الباحث في مركز الجزيرة للدراسات، فقد رأى أن إيران تسعى لإعادة تشكيل موقف تفاوضي مختلف، لكنها لا تملك وقتًا طويلاً. فالعقوبات الدولية تلوح في الأفق، ومجلس الشورى الإيراني أصدر قرارات بوقف التعاون مع الوكالة الدولية، لكنها لم تُفَعّل حتى الآن، لأن طهران تريد التفاوض من منطلق رفض العقوبات، لا تحت ضغطها.

وأشار مكي إلى أن الغموض المتعمد في مصير برنامج إيران النووي ومخزونها من اليورانيوم يشكل عنصر قلق حقيقي للدول الأوروبية، وهو ما تحاول طهران استغلاله كورقة تفاوضية للحصول على مكاسب تتجاوز ما كانت تفاوض عليه سابقًا.

إسرائيل: خصم الظل.. وأحلام إسقاط النظام





في هذا المشهد المركّب، لا تغيب إسرائيل عن الصورة، بل تُعَدّ عنصراً فاعلاً في خلفية المشهد التفاوضي. فبحسب الدكتور بلال الشوبكي، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الخليل، فإن إسرائيل تواجه معضلة حقيقية: فهي أعلنت، إلى جانب واشنطن، أنها حققت “نصرًا” على إيران، مما يمنعها – منطقياً – من القيام بأي عمل عسكري كبير جديد، لأن ذلك سيتناقض مع رواية النصر التي تسوّق لها.

ولذلك، تتجه إسرائيل نحو محاولة التأثير غير المباشر على مفاوضات إيران عبر الضغط الأميركي، وإدخال ملفات جديدة مثل الصواريخ الباليستية، وتحجيم علاقة إيران بحلفائها في المنطقة، وخاصة حزب الله. ولا تستبعد تل أبيب أن تذهب بعيدًا لاحقًا، بمحاولة إشعال اضطرابات داخلية في إيران، لإسقاط النظام من الداخل بدل المواجهة العسكرية المباشرة.

إيران أمام اختبار التاريخ





في لحظة فارقة من عمر المنطقة، تقف إيران أمام مفترق حادّ. فهي بين فكي كماشة: الحاجة الماسة للتفاوض لكسر الحصار وتفادي العقوبات من جهة، وضرورة الحفاظ على صورتها كدولة قوية لم تُهزم ولم تنكسر من جهة أخرى.

التاريخ يختبر صبر إيران ودهاءها السياسي، لكنها هذه المرة بلا أوراق كافية، في عالمٍ تغيّر مسرحه وتبدّلت قواعده. وهنا، يبقى السؤال مفتوحًا: هل تنجح طهران في إعادة هندسة شروط التفاوض؟ أم أنّها تدخل مرحلة التيه السياسي والدبلوماسي وسط ركام الاشتباك الأخير؟

في السياسة كما في الشطرنج، لا يكفي أن تكون لاعبا جيدا، بل أن تختار اللحظة المناسبة للهجوم أو الانسحاب. ويبدو أن طهران الآن، تكتفي بتحريك البيادق في انتظار الفرصة التي قد لا تأتي قريبًا.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد