صدى الواقع اليمني – تقرير: حسين الشدادي
في العاشر من شهر الله المحرم، يختلط الزمن بالعقيدة، والذاكرة بالتاريخ، وتتشظى المشاعر بين الحزن والفرح، البكاء والصيام، العزاء والمأدبة. إنه يوم عاشوراء، أحد أكثر الأيام إثارة للجدل والاختلاف في تاريخ المسلمين، إذ انقسمت فيه الأمة — منذ قرون — إلى رؤيتين متقابلتين، كل منهما تستبطن ذاكرة دينية وسياسية وثقافية مختلفة.
بينما يراه أهل السنة يوم نجاة للنبي موسى عليه السلام وصيامٍ تطوعي تأسّياً بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، يتلقّاه الشيعة كيوم حزن وكرب، إذ يستعيدون فيه ذكرى مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، حفيد النبي، في واقعة كربلاء، تلك المأساة التي جرت فصولها على أرض العراق في عام 61 للهجرة، فشقّت قلب الأمة الإسلامية، وشرخت الذاكرة الجماعية إلى شطرين.
لكن في مصر، لم يكن الأمر دائماً محكوماً بالتقسيم الفقهي البسيط. فالمجتمع المصري، بحسّه الشعبي العميق، أعاد تشكيل عاشوراء وفق خصائصه الثقافية، فاندمج الديني بالشعبي، والسياسي بالتراثي، وتحوّل عاشوراء إلى موسمٍ له أهازيجه، ومأكولاته، ومواكبه، وأساطيره، ومعاركه أيضاً.
هذا الوثائقي الطويل، هو رحلة عبر الزمن، نعيد من خلالها استكشاف تحوّلات عاشوراء في مصر، من أيام الأمويين وحتى الحاضر، مروراً بالدولة الفاطمية، والأيوبية، والمملوكية، والعثمانية، ثم عصر محمد علي والدولة الحديثة، وانتهاءً بالمجتمع المعاصر، حيث يحتفل المصريون اليوم بعاشوراء، لا بوصفها ذكرى مأساوية أو شعيرة طائفية، بل “تراثاً حيّاً” تُغلفه نكهة الحلوى، وتغنّيه حناجر الأطفال بنداء “يا سي علي لوز”.

أول الفجيعة: مقتل الحسين في كربلاء
في العاشر من المحرم، من عام 61 هـ، سُفك دم الإمام الحسين بن علي على تراب كربلاء، ومعه قُتل أهله ورفاقه، في واقعة أدمت الضمير الإسلامي، وولّدت شرخاً سياسياً ومذهبياً ما زال يُشكّل جزءاً كبيراً من الانقسام بين السنة والشيعة.
وبينما كان الحسين رمزاً للثائر في وجه الظلم، حملت الواقعة رسائلَ عميقة ذات بُعدٍ سياسي وأخلاقي لا تخفى على أحد، ما جعلها مادة دائمة للتوظيف والجدل، وأحياناً للتغييب. ومع الوقت، لم تُطوَ صفحة كربلاء في كتب التاريخ، بل تحوّلت إلى طقسٍ دائم في الضمير الشيعي، وحدثاً صامتاً أو ثانوياً في الذاكرة السنية.

جذور التشيع في مصر: من علي إلى الفاطميين
في زمن الخليفة عثمان بن عفان، بدأت بوادر الاستياء تظهر في مصر، نتيجة سياسات الولاة. فوفدت جماعة من المصريين تطلب من عثمان تغيير ولاته، وحينما رفض، كان المصريون ضمن من شاركوا في الثورة عليه، مما جعلهم من أوائل الداعين إلى بيعة الإمام علي، بعد مقتله، حسب ما يذكره المقريزي، وابن أبي عمرو الكندي.
وقال يزيد بن أبي حبيب، مفتي مصر في القرن الأول الهجري: “نشأتُ بمصر وهي علَوية، فقلبتُها عثمانية” — وهي عبارة تختزل تاريخاً طويلاً من التبدلات في المزاج السياسي والديني في مصر.
ومع مجيء الدولة الفاطمية إلى مصر عام 358هـ، بقيادة جوهر الصقلي، برز التشيّع بصورة رسمية، وأصبح عاشوراء مناسبة مركزية للدولة، تُحتفى بها كطقسٍ ديني وسياسي في آنٍ معاً.

عاشوراء في العصر الفاطمي: مواكب، بكاء، وسماط حزن
في الدولة الفاطمية، كان إحياء عاشوراء يخرج من الطور الشعبي إلى الطور الرسمي. أصبح الطقس منظّماً ترعاه الدولة، ويشارك فيه الخليفة، والقاضي، والجند، والجماهير. يروي المؤرخ ابن زولاق أن جماعات من الشيعة كانت تزحف في يوم عاشوراء إلى مقامات السيدة كلثوم والسيدة نفيسة، بالبكاء واللطم، وكسر أواني السقائين في الأسواق.
أما المقريزي فيصف هذا اليوم بأنه “يُعطّل فيه العمل، وتُنصب فيه الموائد، وتُوزع العطايا، وتُرفع الرايات السوداء”، وكان سماط الحزن يُمدّ بأكثر من ألف طبق من العدس، والمخللات، والخبز الأسود، والعسل، والفطير.
ويجلس الخليفة الفاطمي على كرسي الجريد، متلثماً، حافياً، في مشهد جنائزي جماعي يعكس الارتباط الرمزي بين الدولة وآل البيت، ومعركة كربلاء.

تحول العقيدة إلى تراث: من الحزن إلى الحلوى
لكن لم يكن كل المصريين متفقين على هذه الطقوس. فقد كانت ثمة مقاومة من فئات أخرى، وبدأت الدولة الأيوبية لاحقاً، بقيادة صلاح الدين الأيوبي، بانقلاب سياسي وديني ضد الفاطميين. أغلق الجامع الأزهر، ومُنع النوح على الحسين، وتحول عاشوراء من يوم حزن إلى يوم سرور، وصار المصريون يُحيونه بالمآدب والاحتفال والاغتسال والاكتحال وصناعة الحلويات.
ووصف المقريزي هذا التحول قائلاً: “سنّها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان ليرغموا أنوف الشيعة، الذين يتخذون عاشوراء يوم حزن على الحسين.”
وهكذا، بدأت مصر تُعيد تشكيل عاشوراء في طقس اجتماعي جديد، لا يربط بين الحدث التاريخي والمناسبة، بل يجعل منها فرصة للفرح واللمة العائلية.
المماليك والاحتفاء بالمائدة
في عهد الدولة المملوكية، عاد الطقس يأخذ منحى اجتماعياً واضحاً. يُطبخ الحَب، ويُوزّع الخبز واللحم، وتُفتح أبواب الجوامع للفقراء. ويقول علي باشا مبارك في “الخطط التوفيقية” إن الدولة كانت تُنفق أربعين قنطاراً من خبز البر، وعشرة قناطير من لحم الضأن، وأربعة قناطير من العسل، لصالح فقراء يوم عاشوراء.
لقد أصبح اليوم في تلك الحقبة مناسبة للصدقة والكرم، بلا بكاء ولا صيام، بل مزيج من التقاليد ذات الطابع الشعبي والديني.
القرن التاسع عشر: “يا سي علي لوز”
مع مصر الحديثة، في عهد أسرة محمد علي، يستمر التحول الشعبي لعاشوراء. الأطفال يصنعون الحلوى ويجوبون الشوارع منشدين “يا سي علي لوز”، في تعبير مدهش عن اندماج التشيّع الشعبي في اللاوعي المصري، حتى في زمن ابتعد فيه المصريون عن الفكر الشيعي بمعناه السياسي أو العقدي.
ويحكي الشيخ علي محفوظ في كتابه “الإبداع في مضار الابتداع” عن “بخور العشر”، وحلوى البنات، والسكر المعقود واللوز المملّح، كطقوس مرتبطة بعاشوراء، مشيراً إلى ما رآه من “مظاهر بدعية”، لكنها كانت، في الواقع، امتداداً لذاكرة فاطمية بعيدة.
الذاكرة الغائبة: كيف تم طمس كربلاء؟
يرى باحثون، من أمثال محمد صلاح وصالح الورداني، أن الدول المتعاقبة في مصر — من الأيوبيين إلى العثمانيين — عملت بشكل ممنهج على طمس الطابع الكربلائي لعاشوراء، وحوّلت المناسبة إلى احتفال بنجاة موسى، أو حتى بالهجرة النبوية، رغم أن الأخيرة لم تبدأ أصلاً في شهر محرم.
ويشير صلاح إلى أن الحديث عن موسى، أو الهجرة، هو “محاولة سياسية لتقزيم المأساة الكربلائية، وإعادة توجيه وعي الجماهير إلى سرديات أخرى أقل إزعاجاً للسلطة”.
عاشوراء اليوم: البهجة تغلب الحزن
في مصر المعاصرة، أصبح يوم عاشوراء مناسبة لصناعة الحلوى من القمح، اللبن، والسكر. وتحرص الأمهات في الأرياف والمدن على طهيها وتوزيعها كهدايا، دون التفكير في الخلفيات المذهبية أو التاريخية للمناسبة.
تقول الدكتورة نهلة إمام، أستاذة الفنون الشعبية: “المصريون لا يربطون عاشوراء بالحزن، بل يعدونه موسماً للبهجة، تماماً كما هو الحال مع مولد النبي أو ليلة النصف من شعبان.”
وتضيف: “طبيعة المصري لا تميل للحزن الديني، بل تربطه بالكرم، والمشاركة، واللمة العائلية.”
عاشوراء في مصر… حين يصبح التاريخ طقساً شعبياً
عاشوراء في مصر ليست يوماً واحداً، بل فسيفساء من المعاني والسياقات. إنه اليوم الذي عبر فيه التراث الديني بوابة الوجدان الشعبي، ليصبح مناسبة تُحييها الملاعق والأواني قبل الخطباء والشيوخ. يومٌ خرج من عباءة الحزن الصافي، ومن ساحة السجال الطائفي، ليتشكّل كهوية مصرية خالصة: فيها من البكاء ظلٌّ بعيد، ومن الذكرى شبح خافت، ومن البهجة دَسمٌ واضح.
إنه درسٌ في قدرة الشعوب على إعادة تشكيل التاريخ وفق حاجتها النفسية والاجتماعية، فـ”عاشوراء المصري” هو ثمرة قرون من التفاعل بين الدولة والدين، الحاكم والمحكوم، الذكرى والمائدة.
عاشوراء ليس مجرد يوم… بل مرآة لروح مصر، حين تُحوّل المأساة إلى مهرجان، والذاكرة إلى حلوى.