صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي

في مدينة تعز، تلك الحاضرة الجريحة التي تسكنها النار منذ سنوات، يتعالى أنين العطاشى كل صباح، ويتكرر مشهد المئات من الأطفال والنساء والرجال وهم يطوفون الأزقة الضيقة بحثاً عن قطرة ماء ليس هذا مشهداً من رواية خيالية، بل هو واقع قاسٍ يتجدد كل يوم في مدينة تُعدّ من أكثر مدن اليمن كثافة سكانية، لكنها أضحت اليوم مدينة بلا ماء.

يبحث المواطن في تعز عن قنينة ماء صغيرة تروي عطش طفله، ولا يجد. يشقّ طريقه بين طوابير الإهانة، ووعود الكذب، وخيانات من باعوا الضمير باسم السياسة والدين الدبة “الكوثر” ذات العشرة لترات تجاوز سعرها آلاف الريالات، إن وجدت أما مياه الآبار – وعددها بالعشرات كما تؤكد خرائط الموارد الجوفية – فقد باتت مملوكة لفئة من المتنفذين، تُباع وتشترى كأنها من أملاكهم الخاصة، في ظل غياب أي رقابة حقيقية من السلطة أو مؤسسات الدولة المنهارة.

في هذا المشهد الكارثي، يبرز غياب فاضح ومشين لرجال الدين، أولئك الذين ملأوا المنابر ضجيجاً حين كان الأمر يتعلق بإطالة لحية أو تقصير ثوب، وسكتوا حين تعلق الأمر بكرامة الإنسان، بحقه في الحياة والماء الخطباء المتكرشون، الذين صعدوا منابر الجمعة في تعز وغيرها من مدن اليمن، لم يجدوا في هذا البؤس ما يستحق التنديد أو الغضب، كأنّ معاناة الناس تقع خارج دائرة التكليف الشرعي أو الواجب الأخلاقي.

أين أنتم يا من تزعمون الحديث باسم الدين، والقرآن بين أيديكم يحدثكم عن الماء الذي جعله الله كل شيء حيّ؟ ألم تقرأوا قوله تعالى: “وسقاهم ربهم شراباً طهوراً”؟ كيف تسكتون على هذا العطش، على هذا الذل، وأنتم ترتدون العمائم الناصعة، وتشربون الماء المعبأ في عبوات باردة؟ أليس من أولى منابركم أن تصرخ بوجه الفساد، وتدين استباحة الماء، وتستنكر تحويله إلى سلعة يتحكم بها الفاسدون والتجار وناهبو حقوق الشعب؟

إن ما يحدث في تعز لا يمكن تبريره لا ديناً ولا قانوناً ولا عرفاً، ولا حتى في أخلاق الحروب إنه عارٌ على كل من يملك صوتاً ويسكت، جريمة بحق كل إنسان يُترك عطشاناً في مدينته، بينما تجري المياه تحت أقدام المتنفذين إلى خزاناتهم الخاصة ومزارعهم وبساتينهم المحاطة بأسوار الموت.

الوضع في تعز اليوم تجاوز حدود الأزمة الخدمية، ليتحول إلى جريمة إنسانية مكتملة الأركان الجهات المعنية تلتزم الصمت، وبعضها شريك في الجريمة بصمتها أو بتسهيلها، وخطباء المساجد – إلا من رحم الله – يمارسون الصمت ذاته، بل ويمثلون الغطاء الديني لسلطة عاجزة أو متواطئة.

لم نعد نحتمل هذا التواطؤ، لم نعد نطيق الخذلان المتكرر من رموز كان يفترض أن يكونوا صوت الناس، لا سيفاً على رقابهم. إن تعز التي أنجبت الثائرين والكتّاب والمجاهدين، تستحق منّا اليوم أن نكون في صفها، لا أن نبيعها كما باعها من اعتلوا المنابر ونسوا الله فأنساهم أنفسهم.

يا رجال الدين: قولوا كلمة حق، وافتحوا أبواب مساجدكم لخزانات الماء إن لزم، علّ الله ينظر إليكم بعين الرحمة أما نحن، فلن نصمت، لأن السكوت على هذا العطش خيانة، ولأن الله قد أمرنا أن لا نركن للذين ظلموا، حتى لا تمسنا النار.

تعز العطشى، تستغيث، فمن يجيب؟
ليس فقط بالماء، بل بكلمة، بموقف، بصوت شريف يكسر حاجز الخوف والخنوع.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد