صدى الواقع اليمني – كتب : عبدالاله الشرجبي



في لحظات الانكسار الكبرى، لا يُقاس وجعُ المدن بعدد القتلى، ولا بكمية الركام الذي تخلّفه الحروب، بل بما تبوح به الأرصفة من أنين، وما تخفيه العيون الصغيرة من أسئلة معلّقة في الهواء، تبحث عن إجاباتٍ اختنقت وهي في طريقها نحو الالم الذي لانجاة لها مادام من يحكمها سفلة مع مرتبة العار

ليست كل جريمة بحاجة إلى قاتلٍ يحمل سكينًا ويهرول في الظلام…
فبعض الجرائم، أكثر فتكًا، ترتكبها أصابع ناعمة، ترتدي ملابس فاخرة، وتبتسم للكاميرا وهي توغل في الخيانة.
جرائم لا تترك خلفها جثثًا، بل مدنًا تنزف ببطء، قلوبًا مشلولة، وأحلامًا مشردة.

تعز ليست ضحية قصف فقط…
إنها ضحية خيانة طويلة النفس، ضحية من باعوها على مائدة المناصب، وسرقوا أنينها ليصنعوا منه أناشيد نصرٍ كاذب.
المدينة التي كانت تقرأ بينما غيرها يطلق الرصاص، والتي كانت تمشي في دروب النور بينما كانت المدن الأخرى تغرق في ظلام الجهل…
ها هي اليوم تُذبح من الوريد الإداري إلى الوريد الأخلاقي، دون أن تسيل قطرة دم.

هنا، لا يُسمع دوي القذائف، بل يُسمع دويّ القهر.
صمتٌ ثقيل يُخيّم فوق كل شيء، وكأنه يصرخ: “تعز تُهان”.
ولا أحد يلتفت… الجميع يهرول نحو منافعهم، يجرّون وراءهم أذيال الحصانة، ويتوارون خلف جدران الخطابات.

في مدينة كانت يومًا منارة، صارت الكهرباء حلمًا، والماء ترفًا، والأمن طرفة.
لا لأن الإمكانيات معدومة، بل لأن الضمائر مشلولة، والأيادي المرتعشة تكتب التقارير، وتمسح بصمات الجريمة.

في تعز، تسقط القيم قبل أن تتهاوى المباني، وتُغتال الأحلام قبل أن تُطلق الرصاصات.
نحن لا نواجه شبح الحرب فحسب، بل نواجه جيشًا من المتحذلقين، الذين يُتقنون فن التبرير، ويتوسلون الحرب لتبرير فشلهم، أو بالأحرى لتغطية خيانتهم.

المسؤول في هذه المدينة ليس مسؤولًا، بل مخلوق إداري بلا روح، يضع على صدره لافتة، وفي قلبه خراب.
لا يرى الجائع، بل يرى عدسة الكاميرا.
لا يسمع أنين الأرامل، بل يسمع تصفيق أتباعه.
هو لا ينام مرتاحًا لأنه أنجز، بل لأنه تعوّد على سماع النحيب دون أن يتأثر.

ويا للأسف…
تعز لا تبحث عن أعجوبة، بل عن رجلٍ إذا دخل مكتبًا، شعر أن الشعب والملائكة تراقبه.
عن مسؤولٍ يعرف أن الكرسي أمانة، لا وسادة يضع عليها رأسه لينام فوق أشلاء البؤساء.

لكننا اليوم نعيش زمنًا بلا رجال.
زمنًا امتلأ بآكلي اللحوم الباردة، أولئك الذين يتغذون على الفوضى، ويشربون من كأس البؤس كمن يشرب نبيذًا فاخرًا في حفلة خاصة.
زمرة من أشباه المسؤولين، تأنقوا في لبس ربطات العنق، وتأنّثوا في تقديم الأعذار، ولم يرمش لهم جفن أمام بكاء يتيم، أو تنهيدة مواطن كلما بحث عن خدمة فلم يجدها.

تعز لا تحتاج شعارات، بل ثورة على النفاق والفساد .
تحتاج إلى من يرى المنصب امتحانًا لا امتيازًا، إلى من يخلع بدلته في آخر النهار، ويستطيع أن يقول لأطفاله بجرأة: “لم أخن”، لا من يتهرّب من نظراتهم كمن يتهرّب من المرايا.

في هذه المدينة، كل شيء أصبح هشًّا…
ما عادت هذه المدينة  تئن فقط، بل تنتحب تحت سياط الذل، وتحت أقدام من يدّعون الثورة ويمارسون الطغيان بأسماء جديدة.
بات المواطن فيها سلعة، وصوته مهرجانًا، ومعاناته مشهدًا يُستخدم لتزيين نشرات الأخبار.

إن من يرتضي أن يرى تعز تنزف ولا يصرخ، هو شريك في الذبح.
ومن يقبل أن يكون جزءًا من حفلة الخداع تحت لافتة “المسؤولية”، هو قاتل أنيق، يرتكب الجرائم بربطة عنق ولا يترك بصماته.

هل الكارثة قدر؟
أم أن الكارثة هم أولئك الذين يتقمصون دور القدر؟
هل الفقر قدر محتوم؟
أم نتيجة خطة خبيثة لنخبة تتوارث صناعة البؤس كما يتوارث الإقطاعيون حقول القمح ليستمر البؤس والقهر والخراب ؟

نحن لا نكتب هذا لأننا نحب العويل، بل لأننا نرفض أن نكون شهود زور.
لأننا لا نرضى أن تُطمس الحقيقة تحت أكوام الخطب والمجاملات والمجالس الموشّاة بالرياء.

تعز لا تحتاج إلى من يصور الأزمات، بل من يدفنها.
لا تحتاج إلى وعود، بل إلى نهاية أكذوبة.
إلى من يتوضأ بدموع أهلها قبل أن يصعد إلى المنصة ويكتب خطابًا،
إلى من يغسل ضميره كل صباح قبل أن يغسل وجهه.

لقد تعبنا من الثوار الذين صاروا تُجّارًا في وقت قصير ،
ومن السياسيين الذين لم يبقَ فيهم شيء من الوطن،
ومن المتدينين الذين يعبدون المنبر أكثر مما يعبدون الله.

تعبنا من الوجوه التي تكرر الازمات ، من الأصوات المخنوقة، من الشعارات التي صارت مطايا للأطماع.
تعبنا من إدارة تقتل الحلم ببطء، كما يُقتل طائر في قفص دون أن يشعر أحد.

فيا تعز، المدينة التي علّمتنا النور،
ها أنتِ الآن تُطفئين بصمت، تُمزّقين على يد الذين قالوا إنهم سيحملونك على أكتاف المجد،
فإذا بهم يسرقون عينيكِ ويبيعونهما في سوق الخراب.

فهل من ضميرٍ يثور؟
هل من قلبٍ ينبض خارج هذا الكون؟
هل من مسؤولٍ يخجل حين يرى مدينة بلا ماء، بلا كهرباء، بلا خدمات… وهي أبسط الحقوق التي تحتاجها الشعوب؟

إن لم تستفق هذه المدينة من غيبوبتها الأخلاقية، فلن تبقى مدينة، بل تتحول إلى متحف للحسرة،
إلى شبحٍ يتجوّل في كتب الجغرافيا، بينما تُغتال روحها كل صباح على يد لص بربطة عنق، أو خائن يحمل ختمًا رسميًا.

وإذا لم يأتِ ذلك الرجل الذي يعمل لوطنه بصمت، ويقدم لشعبه الخدمات، لا يخاف الإعلام،
ويهتز قلبه كلما نظر إلى دمعة، وتخنقه دموع الفقراء أكثر مما تخنقه العقوبات…

تعز لا تطلب رثاءً، بل انتفاضة ضمير.
فإن تركتموها تُذبح في الظل، ستحفر أسماؤكم على جدار الخيانة، لا في صفحات المجد.

فلا تُنصتوا كثيرًا لأكاذيب المسؤولين،
ولا تُعوّلوا على كرامة وُضعت في خزائن الأحزاب.
تعز تناديكم أن تكونوا لها صوتًا، لا صدى.
أن ترفعوا عن وجهها غبار الخذلان، وتطفئوا نار الذل المشتعلة في أزقتها.

تذكروا دائمًا… المدن لا تموت حين تُقصف، بل حين يُخمد فيها وهج الرجولة، وتُباع قضيتها في سوق التنازلات.
وتعز، رغم كل شيء، ما زالت تقاوم… لا بجيش، ولا بمال، بل بشعبٍ يرفض الانحناء، ويؤمن أن الصدق في وجه العار، هو أول معجزة النجاة.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد