صدى الواقع اليمني – كُتب بواسطة : د. عبدالرحمن حيدره

عند كل أزمة سعر صرف في عدن، تتجه الأنظار إلى البنك المركزي، وتبدأ التكهنات: هل ضخ عملة جديدة؟ هل استنزف الوديعة؟ هل رفع الفائدة أو غير آلية تمويل الاستيراد؟ ورغم أن هذه الأسئلة تبدو منطقية في ظاهرها، إلا أنها تتجاهل سؤالًا أكثر أهمية: إلى أين تتجه كل تلك الدولارات التي تُضخ في السوق؟ الإجابة المربكة، والمؤلمة في آن، هي أنها تتجه إلى صنعاء.


نعم، ملايين الدولارات تتدفق يوميًا من المناطق المحررة إلى مناطق سيطرة الحوثيين عبر التبادل التجاري الداخلي، لكن تحت ظروف غير طبيعية: مناطق تتعامل بعملتين مختلفتين، وأنظمة نقدية لا تعترف ببعضها، وسوق مفتوحة تستهلك دون أن تُنتج.

والمفارقة أن هذا التدفق يتم دون أن يُسجل أو يُراقب أو يُقابل بأي عائد. القصة ببساطة هي أن سكان عدن وأبين ولحج يستهلكون القات، الخضار، الفواكه و اللحوم القادمة من مناطق سيطرة الحوثي، لكنهم يدفعون مقابلها بالدولار أو الريال السعودي، لا بالريال اليمني الذي يُصدره البنك المركزي في عدن.


للتقريب، إذا أنفق كل فرد من سكان المناطق المحررة (وعددهم يُقدّر بـ ١٢-١٤ مليون نسمة) ما معدله ثلاثة دولارات فقط يوميًا على سلع مصدرها مناطق الحوثيين، فإن ذلك يعني تسرب من (٣٦-٤٢ ) مليون دولار يوميًا من الاقتصاد الرسمي إلى اقتصاد متمرد. وعلى مدى عام، فإن الرقم يتجاوز الثلاثة عشر مليار دولار، وهو ما يعادل ضعف الاحتياطي النقدي المتاح للبنك المركزي اليمني. كل ذلك يحدث بصمت، دون أن يملك أحد القدرة على وقفه أو حتى تتبعه.


ورغم الجهود التي يبذلها البنك المركزي – من تقييد التحويلات، ومراقبة الصرافين، وتنظيم الواردات – إلا أن فاعليتها تتآكل يومًا بعد يوم لأن هذا النزيف المفتوح لم يُغلق. ما يحدث يشبه تمامًا محاولة ملء خزان مثقوب: كل إصلاح نقدي يتم تبخيره عبر نافذة مفتوحة تُدعى “السوق الداخلية غير الخاضعة للسيطرة”.


ليست المشكلة في وجود تبادل تجاري، بل في غياب الضوابط. جماعة الحوثي تعتبر مناطق عدن وكأنها بلد أجنبي: تفرض على السلع القادمة من الجنوب جمارك مضاعفة، وتجبي الضرائب، وتراقب كل شاحنة. في المقابل، تمر شاحنات القات والخضروات القادمة من صنعاء إلى عدن كما لو أنها تأتي من محافظة يمنية تحت إدارة الدولة. والأسوأ من ذلك أن هذه السلع تُشترى بعملة صعبة، دون فواتير، دون ضرائب، دون أي عائد للدولة.


الحل لا يكمن في مواجهة صاخبة، بل في هندسة اقتصادية متدرجة، تبدأ من تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل: إذا كانت صنعاء تعامل عدن كدولة أجنبية، فعلى عدن أن تفعل الأمر ذاته. ثم الانتقال إلى استخدام مبيعات الغاز والنفط كسلاح نقدي، من خلال فرض الدفع بجزء من القيمة بالعملة القديمة، تُسلَّم فعليًا للبنك المركزي في عدن، ضمن خطة لسحب الكتلة النقدية القديمة من مناطق الحوثيين تدريجيًا.

وبالتوازي، يجب دعم الزراعة المحلية في لحج وأبين وشبوة، لتقليص الاعتماد على سلع الشمال، لا سيما في المنتجات الأساسية.


لا يمكن إنقاذ الريال في عدن، ما دام الدولار يُصرف فيه لتمويل خصوم الدولة. لا يمكن ضبط السوق، بينما هناك اقتصاد موازٍ يعمل بحرية، ويمتص كل ما يُضخ من إصلاح. القضية هنا تتجاوز النقد، وتتصل بالسيادة. وكل يوم تتأخر فيه الدولة عن ضبط هذا النزيف، تخسر فيه ليس فقط مواردها، بل ثقة مواطنيها.

ما يجري ليس تجارة داخلية، بل تمويل دائم لكيان لا يعترف بالدولة. وكل دولار يُنفق اليوم على قات أو فاكهة من المناطق القابعة تحت سيطرة الحوثي ، هو رصاصة اقتصادية تُطلق على قلب الدولة من دون أن يسمع صوتها.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد