صدى الواقع اليمني – كتب: عبدالاله الشرجبي




منذ أن أطاح الانقلاب الحوثي بآخر ما تبقى من هيبة الدولة في اليمن،  دخل البلد نفقًا مظلمًا لا يُرى في آخره سوى أشباح الخراب والدمار. غير أنّ المأساة الكبرى لم تكن فقط في جماعة مسلحة استولت على السلطة بالقوة والقهر والغلبة، بل في العهر السياسي الذي فضح وجوهًا وأقنعة كانت لسنوات تتغنّى بالوطنية وتدعي  الديمقراطية، فإذا بها تكشف عن حقيقتها المريبة: نخبٌ سياسية لا ترى في السياسة إلا وسيلة للارتزاق وتكديس الثروات ونهبها ومصادرة أبسط حقوق الشعب والأمة.

تحولت السياسة في اليمن إلى سوق نخاسة تُباع فيه المواقف وتُشترى بالولاءات والصفقات، وصار الوطن مجرد ورقة مساومة على طاولة الإقليم والعالم. أما المواطن اليمني فقد بات حطبًا في محرقة الصراع، يتناوب عليه تجار الحروب والمليشيات، بينما يتنقل الساسة بين فنادق الخمس نجوم، يتحدثون عن آلام الشعب بوجوه يعلوها المكياج السياسي وقلوب لا تعرف للحياء سبيلًا ولا علاقة لها بالضمير الإنساني.

ولم تكتفِ الحرب بتمزيق الوطن ونهب ثرواته، بل خلّفت لنا أيضًا طبقة من القادة والساسة  الذين جسّدوا أبشع صور العهر السياسي؛ قادة يفتقدون إلى الوطنية والمصداقية والوفاء للثوابت التي كان ينبغي أن تكون بوصلة العمل العام. لقد أفرغوا السياسة من مضمونها النبيل، وحوّلوها إلى صراع رخيص على الغنائم وتقاسم للمصالح الضيقة، يتنازعون على أشياء شكلية لا وزن لها في حياة الشعوب، ويشتد بينهم الخصام على تفاصيل تافهة، بينما الوطن يتآكل والشعب يتضور جوعًا. إنهم أبناء مدرسة العهر السياسي التي لا تؤمن بالمسؤولية ولا بالضمير، بل بالصفقات الرخيصة وبيع الأوطان في سوق المصالح.

لقد أصبح من المألوف أن نرى هؤلاء يتناحرون في الإعلام على المناصب والمكاسب، وكأن اليمن ليس وطنًا بل غنيمة يتقاسمها الورثة على مائدة الخراب. لم يعودوا يختلفون عن تجار الحروب والمليشيات، سوى بأنهم يرتدون ربطات عنق ويتحدثون بلغة “الشرعية” ، بينما في الجوهر لا يقدّمون إلا نسخة أخرى من العهر السياسي المتوحش. وهكذا فقد المواطن المطحون ثقته بهم جميعًا، ورآهم عراةً من أي فضيلة، مجرد مرتزقة يتاجرون بدمائه وآلامه، ويتسابقون على فتاتٍ لا يطعم جائعًا ولا يداوي جريحًا.

إنهم أشبه بقباطنة سفينة غارقة، يتصارعون على المقاعد الوثيرة فيها  ويتجادلون حول من يحق له الإمساك بالمقود، فيما الماء يندفع من كل جانب والأمواج تتقاذف الجسد المتهالك. هذا هو العهر السياسي حين يبلغ ذروته: قادة عاجزون عن الإنقاذ، غير مستعدين لترك غيرهم يفعل،ويبني ويؤسس ويعمل بصدق وإخلاص وتفان  ،
يفضلون هلاك  السفينة وغرقها على أن ينجو الشعب بغير أيديهم. وهكذا تُركت البلاد لمصير مجهول، لا يلوح فيه سوى المزيد من الغرق والانهيار،والعبث والدمار  في انتظار جيل جديد يملك من الإخلاص ما يفوق أطماعهم، ومن الشجاعة ما يعلو على خياناتهم، ومن الوطنية ما يكسر قيود هذا العهر السياسي الذي أوصل البلاد إلى حافة الفناء.

لقد كانت السياسة يومًا فنًّا لخدمة الناس، وسعيًا لتحقيق العدالة والكرامة، والحرية والمساواة ، لكنها في اليمن بعد الانقلاب الحوثي تحولت إلى وسيلة للتسلق ونهب الثروات. انهارت القيم، وغاب الشرف السياسي، وأصبح الفساد عنوان المرحلة والارتهان للخارج سلوكًا يوميًا. تُرفع الشعارات باسم الدين والوطن، فيما الممارسة لا تمتّ للدين أو الوطن بصلة، بل ترتبط بالمصلحة الضيقة وتضخم الأرصدة في بنوك الخارج.

ولأن العهر السياسي لا يقف عند حدود الداخل، فقد وجد الخارج فيه ضالته. تدخلت العواصم الإقليمية والدولية، ليصبح اليمن مسرحًا لتصفية الحسابات الدولية. لم يعد الوطن بالنسبة لهم أكثر من ساحة اختبار لسياساتهم، فيما المواطن البائس يدفع ثمن الجوع والتشرد والخذلان والقهر والبؤس والحرمان.

اليمن اليوم ليس مجرد بلد منكوب بالحرب، بل وطن مصلوب على أكتاف تجار السياسة الذين جعلوا من المعاناة مائدة للولائم، ومن الدمار رأس مال يُتاجر به في مؤتمرات السلام المزعومة. لقد ذهبت الاخلاق من هولاء ، وغاب الضمير الوطني حتى صار الحديث عن المبادئ ضربًا من السخرية. وما زال النزيف مستمرًا، والقيم تُغتال، والوطن يُذبح كل يوم على يد أولئك الذين يرفعون شعاراته كذبا وزورًا.

إن العهر السياسي الذي يفتك باليمن أخطر من رصاص البنادق، لأنه يغتال المعنى والغاية، ويحوّل السياسة إلى مستنقع قذر. وما لم ينهض وعي الناس ليميزوا بين الشرفاء وتجار الدماء، فستبقى البلاد رهينة العبث، وسيبقى المواطن يلعن ليلًا ونهارًا أولئك الذين باعوا وطنًا مقابل حفنة دولارات أو كرسي زائل.

الوطن لا يُبنى بالعهر السياسي ولا بصفقات الفنادق، بل بأخلاق الرجال الأحرار الذين يجعلون من السياسة فنًّا لخدمة الشعب، لا سلّمًا للارتزاق والخيانة. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى يقظةٍ وطنية ترفض العبث وتستعيد للسياسة معناها النبيل: أن تكون وسيلة لصون الكرامة لا وسيلة لبيعها.

إن العهر السياسي الذي ينخر جسد اليمن ليس مجرد حدث عابر في تاريخ الأمم، بل لعنة تتوارثها الأجيال إن لم تُكسر قيودها. هو أخطر من الدمار العسكري، وأقسى من القهر الاقتصادي، لأنه يذبح المعنى قبل أن يذبح الإنسان، ويهدم القيم قبل أن يهدم العمران. إنّ بندقية العدو قد تُسقط جسدًا، لكن عهر السياسة يسقط أروحًا وأمة بأكملها ، ويحوّل الناس إلى قطعان تُساق إلى المصير دون إرادة أو وعي.

لقد علّمنا التاريخ أن الشعوب قد تنهض من تحت الركام إذا حافظت على قيمها وأخلاقها، أما حين تنهار القيم السياسية، ويتحوّل الشرف الوطني إلى سلعة في أسواق الخيانة، فإن الخراب يصبح قدَرًا مكتوبًا، وتتسع هوة السقوط حتى لا يبقى للوطن من اسمه سوى جغرافيا يتنازعها الطامعون. ولهذا فإن أخطر ما يواجه اليمن اليوم ليس رصاص الحوثي ولا مؤامرات الخارج فحسب، بل هذا الانحطاط الذي أفرغ السياسة من مضمونها، وحوّلها إلى مستنقع يرتع فيه تجار الدماء.

لكن مهما طال ليل العهر السياسي، فإن فجر الوعي قادم لا محالة. الشعوب التي تُستنزف في صمت قد تنحني أمام العاصفة، لكنها لا تموت، بل تُخزّن غضبها حتى يحين لحظة الانفجار. وآنذاك، ستسقط الأقنعة، وسينكسر المستنقع، وتُطهّر السياسة من رجس الساسة  الذين جعلوا منها وسيلة للخيانة.

إن خلاص اليمن لن يأتي من موائد الفنادق ولا من صفقات العواصم، بل من يقظة وطنية تعيد للسياسة معناها الأول: أن تكون أداة لحماية الكرامة، لا وسيلة لبيعها. لن يكون المستقبل لأولئك الذين باعوا وطنهم بثمن بخس، بل لأولئك الذين سيجعلون من السياسة عهدًا أخلاقيًا ومسؤولية تاريخية. حينها فقط، ستتحرر البلاد من لعنة العهر السياسي، ويُبعث من قلب الركام وطن جديد، وطنٌ شامخ بشموخ أبنائه المخلصين ،وقادته العظماء.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد