صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي
في التاريخ الإنساني محطات نادرة تُشرق فيها روح الفلسفة من قلب التجربة، لا من رفوف الكتب.
وفي تاريخ الإسلام الحديث، تبرز تجربة الأمير عبد القادر الجزائري كواحدة من هذه اللحظات المضيئة التي جسّدت الفكر الإسلامي في أنبل صوره العملية؛ لحظةٌ التقت فيها الأخلاق بالسياسة، والتصوف بالقيادة، والإيمان بالعقل.
ذلك الرجل الذي واجه فرنسا بالسيف خمسة عشر عامًا، هو نفسه الذي علّمها بعد الحرب معنى الشرف الإنساني، حتى قال عنه نابليون الثالث:
“فرنسا لم تهزم عبد القادر، بل تعلّمت منه معنى الشرف.”
عبارة كهذه لا تُقال مجاملةً، بل اعترافًا بهزيمةٍ أخلاقية أمام قائدٍ لم تُفسده السلطة ولا السجن ولا المنفى.
الفلسفة الإسلامية كجوهر إنساني
الفلسفة الإسلامية، في عمقها، ليست مجرد تأمل لاهوتي أو جدل كلامي؛ إنها رؤية وجودية للإنسان بوصفه خليفةً في الأرض، مسؤولًا عن إعمارها بالعدل والجمال.
هي فلسفة تقوم على أن القيمة العليا ليست في القوة، بل في الوعي الأخلاقي، وأن المعرفة ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة للترقي في مدارج الإنسانية.
هذه الفلسفة – التي صاغها فكر ابن عربي والفارابي وملا صدرا وغيرهم – بلغت ذروة تجسيدها العملي في سلوك الأمير عبد القادر.
فهو لم يقاتل الفرنسيين كـ “كفار” بل كـ “محتلين”، ولم يرَ في الحرب سوى وسيلة للدفاع عن الكرامة، لا أداة للانتقام.
وفي زمنٍ كان الدم هو لغة السياسة، حمل الأمير منطقًا مغايرًا
“ننتصر حين نحافظ على شرفنا، لا حين نغلب خصمنا.”
وهذا ما جعل منه رجل دولة حتى في الهزيمة، ورجل دين حتى في الحرب.
التناقض الوجودي في الوعي الإسلامي
لكن المفارقة الكبرى، والتي تشكل جوهر الإشكالية الفكرية في حاضرنا الإسلامي، هي أن هذا النمط من التطبيق الأخلاقي للفلسفة الإسلامية يكاد يكون استثناءً لا قاعدة.
فالإسلام كفكرة يحمل في جوهره نزعة إنسانية رفيعة، لكن عبر التاريخ تحوّل كثير من أتباعه إلى فاعلين في صراعات السلطة لا في مشاريع القيم.
لقد أفرغت الممارسة التاريخية كثيرًا من المفاهيم الإسلامية من محتواها الفلسفي:
العدل صار شعارًا بلا مؤسسات،
والحرية تحوّلت إلى كلمة مشروطة بالولاء،
والدين أصبح هوية جماعية أكثر منه مشروعًا للتحرر الإنساني.
ومن هنا ينبع التناقض الذي نعيشه اليوم:
نعتقد أننا نملك المنهاج الصحيح، لكننا نفتقد الإنسان الصحيح لتجسيده.
حين عرف الغرب الإسلام في رجل
المفارقة المؤلمة أن الغرب لم يعرف عظمة الإسلام من كتب المسلمين ولا من منابرهم، بل من سلوك رجلٍ واحدٍ في السجن والمنفى.
حين رأى الفرنسيون كيف يعامل الأمير عبد القادر أسراهم بعد المعارك، وكيف يرفض التمثيل بهم أو الانتقام، بدأت صورة الإسلام في وعيهم تتبدل.
وحين حمى في دمشق آلاف المسيحيين من القتل عام 1860م، كتب المؤرخ الفرنسي ألكسندر دوما الابن:
“لو كان الإسلام هو عبد القادر، لكان دين الإنسانية كلها.”
لقد قدّم الأمير في تلك اللحظة ما لم تقدمه آلاف الخطب عن التسامح:
تجسيدًا عمليًا للفلسفة الإسلامية في أسمى صورها الأخلاقية.
ومن هنا جاء الاحترام: فرنسا شيّدت له تمثالًا في أمبواز، وأمريكا سمّت مدينة باسمه.
ليس لأنهما أحبّتا الإسلام، بل لأنهما احترمتا الإنسان الذي جعله الإسلام ممكنًا.
الإسلام كفكرة والإسلام كممارسة
تجربة الأمير عبد القادر تكشف أن قيمة الدين لا تُقاس بكثرة المؤمنين به، بل بعدد من جسّدوه بصدق.
وهنا جوهر الأزمة الفكرية في الوعي الإسلامي الحديث:
الإيمان النظري موجود، لكن التجسيد العملي غائب.
نُدافع عن فكرة أننا الأفضل، لكننا لا نمارس الأفضلية في سلوكنا ولا في أنظمتنا ولا في تعاملنا مع الآخر.
لقد ظنّ كثير من المسلمين أن امتلاك الحقيقة يغني عن تمثّلها، وأن الصواب العقائدي يعفي من الصواب الأخلاقي.
لكن التاريخ أثبت أن الأمم لا تُقاس بعقائدها، بل بمنسوب الإنسانية في سلوكها.
وفي هذا المعيار، كان الأمير عبد القادر “أمّة وحده”.
إن عظمة عبد القادر الجزائري لا تكمن في انتصاراته العسكرية، بل في انتصاره على ذاته.
لقد قاوم الغضب، تجاوز الكراهية، وارتفع بالإسلام من مستوى الشعارات إلى مستوى التجربة الإنسانية الخالدة.
ولذلك، فإن الحديث عنه ليس تمجيدًا لتاريخ مضى، بل دعوة إلى مصالحة الوعي الإسلامي مع جوهره الإنساني،
ذلك الجوهر الذي قال عنه ابن عربي:
“دين الحب هو ديني وإيماني.”
إن الأمير عبد القادر هو البرهان الحيّ على أن الفلسفة الإسلامية راقية بما يكفي لتصنع إنسانًا عالمياً،
لكن مأساة التاريخ أنها لم تجد إلا قلةً من أمثاله لتترجمها إلى واقع.

