صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي

“أريد أن أقبض على القدر من عنقه، لن يُخضعني أبداً”  بيتهوفن


كيف لإنسان لم يعرف الحبّ يومًا، أن يفيض بالمحبة في موسيقاه؟
وكيف لمن لم يذق دفء العائلة ولا حنان الأب، أن يكتب أنبل الألحان التي تهدهد روح الإنسانية جمعاء؟
ذلك هو لودفيغ فان بيتهوفن، الطفل المعذّب الذي خرج من قسوة الطفولة إلى رحابة الخلود، والموسيقار الذي حوّل فشله العاطفي ووحدته الطويلة إلى طاقة إبداعٍ لا تنضب.

لم يعرف بيتهوفن طريق القلب السعيد، فشلت كل محاولاته في الحب، وخابت علاقاته بالنساء اللاتي أحبّهن بصمت النبلاء، لم يكن وسيمًا ولا اجتماعيًا، وكان صمته الداخلي وجسده المنهك وعزوفه عن التودّد يجعلانه منغلقًا في عزلته.

لكنه – ويا للمفارقة – كتب أعذب المقطوعات التي عرفت الرومانسية طريقها من خلالها إلى الخلود؛ كأنما كتبها من وحي الحنين الذي لم يعيشه.

طفولته كانت أكثر قسوة من أن تحتملها روح فنان: أبٌ مدمنٌ قاسٍ، بيت مضطرب، وضربٌ متكرر جعله يخاف النوم أحيانًا. لم يجد في الطفولة إلا وجعها، وفي الشباب إلا وحدته، وفي الحياة إلا مقاومة لا تنتهي. ومع ذلك، من تحت هذا الركام العاطفي، خرجت أنغامه كأزهارٍ نبتت في شقوق الألم.

ثم جاءت الضربة الكبرى – الصمم – لتُكمل قدره القاسي، ومع أن فقدان السمع كفيل بإخماد نيران أي موسيقي، فإن بيتهوفن جعل من الصمت منصة انطلاق نحو المطلق.

كتب سيمفونيته التاسعة وهو لا يسمع، لكنه كان يسمع بعقله ما لا يسمعه أحد.

في تلك السيمفونية، التي تُعد أعظم عمل موسيقي في التاريخ، قال بيتهوفن للعالم إنّ الإنسان لا يُقاس بما يفقد، بل بما يخلق من فقدانه. لقد تجاوز حدود الطبيعة، وأثبت أن الإعاقة لا تقف في وجه العبقرية، بل قد تكون بوابتها الكبرى.

الإنسان الذي حرّر الموسيقى من قيود النبلاء

ولد بيتهوفن عام 1770 في مدينة بون الألمانية، في زمن كانت فيه الموسيقى فنّ الملوك لا الناس، لكنه تمرّد على هذا النظام الطبقي منذ بداياته، وقرر أن يجعل من الفن صوت الإنسان لا صوت البلاط.

انطلقت موسيقاه من بيوت النبلاء لتسكن بيوت العامة، ومن قاعات القصور إلى ذاكرة الإنسانية كلها.

كانت سيمفونيته الثالثة “إيرويكا” بيانًا ثوريًا ضد القوالب القديمة، ثم جاءت الخامسة لتعلن الحرب على القدر نفسه، والسادسة لتصالح الطبيعة، والتاسعة لتوحّد البشرية في أنشودة فرح خالدة.
لقد بنى من النغم فكرًا، ومن الصمت فلسفة، ومن الألم جمالًا خالدًا.

لم يكن بيتهوفن موسيقارًا فحسب، بل مفكرًا بالأنغام، وناقدًا للطبقية التي جعلت الفن أداة هيمنة.

أعاد تعريف الجمال بوصفه حقًا إنسانيًا، لا امتيازًا طبقيًا، فجعل الموسيقى تخاطب الجميع: الفقير في معاناته، والعاشق في حزنه، والإنسان في بحثه الأزلي عن النور.

أثر لا يُمحى من وجدان البشرية



بعد قرنين من رحيله، ما تزال أنغامه تنبض في قلب العالم.
في السينما الحديثة، في المهرجانات الكبرى، في المعزوفات الأوركسترالية وحتى في الموسيقى الإلكترونية، نلمس أثر بيتهوفن كما نلمس أثر الضوء على الماء: لا يُرى بالعين، لكنه يُحسّ بالروح.

إن موسيقاه لا تنتمي إلى زمن، بل إلى الوعي الإنساني نفسه. فهي ليست مجرد نوتات، بل سردية وجودية عن الصراع بين الألم والأمل، بين الانكسار والانبعاث.

لقد أثبت بيتهوفن أن الفشل العاطفي لا يقتل القلب، بل قد يجعله أكثر نقاءً، وأن العزلة ليست لعنة، بل محرابًا تتجلى فيه العبقرية.

ومن قلب صمته وحرمانه كتب لنا أنشودة الحب الكبرى، أنشودة الفرح، وكأنه يقول للبشرية كلها:

“لقد سلبني القدر أذنيّ، لكنه لم يستطع أن يسلبني قلبي.”



وهكذا، سيبقى بيتهوفن رمزًا خالدًا للإنسان الذي تجاوز المألوف، وكتب بالموسيقى تاريخ الإرادة الإنسانية في أنقى صورها.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد