صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي
لطالما مثّلت أم كلثوم (فاطمة إبراهيم البلتاجي) أكثر من مجرد صوت؛ إنها أرشيف الطرب الأصيل وتجربة إنسانية شاملة جمعت بين صرامة التكنيك العلمي وذوبان العاطفة الأدبية.
إن محاولة تفكيك هذه الظاهرة تتطلب منهجية مزدوجة، تبدأ من تحليل آلة الصوت وتنتهي عند تأثير الهالة الثقافية والاجتماعية التي كسرت حاجز اللغة.
إن سرّ خلود صوت السيدة يكمن في إتقانها المنقطع النظير للآلية الفيزيائية للغناء، وهو ما يُعرف بـ التفوق التقني المنهجي. لم يكن صوتها مجرد “هبة”، بل هو نتاج تدريب صارم على فنون التحكم والمرونة.
يُعدّ التحكم الحجابي (Diaphragmatic Control) الميزة الأبرز لأدائها الحي. هذه القدرة الهائلة على إطالة الجملة الغنائية (الطربلة)، كما نراها في ذروة أغنية “الأطلال” عند مدّ مقطع “هلْ رأى الحُبُّ سُكارَى مِثلنا؟”، لم تكن مجرد استعراض، بل كانت دلالة على التغذية الثابتة للنغمة بالهواء المُدار ببطء شديد، مما يُبقي على تماسك التلوين الصوتي (Timbre Consistency) حتى نهاية المدّ، ويمنع الصوت من أن يصبح “هزيلًا”.
هذه المهارة هي ما مكنها من الوقوف والغناء لأكثر من خمس ساعات متواصلة، كما حدث في حفل قاعة الأولمبيا بباريس عام 1967.
كان صوتها ضمن فئة الميزو سوبرانو/كونترالتو، لكن بمدى واسع يتجاوز الأوكتافين. الأهم هو قدرتها على أداء الزخارف والعُرَب بدقة متناهية، خاصة في مواضع التقاسيم المرتجلة كجملة “يا فؤادي لا تسل أين الهوى” في الأطلال. هذه العُرب ليست عشوائية، بل هي تجسيد لمرونة الحبال الصوتية وقدرتها على التنقل السريع بين المقامات دون فقدان وضوح النغمات (Diction Clarity).
إذا كان التكنيك هو البنية، فإن الكلمات هي الروح. نجحت أم كلثوم لأنها كانت قارئة مُتفهِمة للنص قبل أن تكون مُغنية له، مما خلق ذلك الاندماج الشعوري الفريد بين المطربة والمتلقي.
إن اختيارها لشعراء من طراز أحمد رامي وإبراهيم ناجي ضمن لها جزالة الكلمات وعمق المضمون. ولكن عبقريتها تكمن في تأويل النص؛ كانت تستخدم تقنية “التقطيع الدرامي” للجملة الشعرية، فتُغيّر أماكن الوقف والوصل لخدمة ذروة المعنى العاطفي، مما يجعل المستمع يشعر أنها تتحد مع حالته الوجدانية. إنها تُحول الكلمات إلى طقس تطهيري.
تقنية الإعادة المتكررة (الطُعْمَة) لم تكن حشوًا، بل كانت وسيلة للتعميق والتأمل. في كل إعادة للجملة، كانت أم كلثوم تُغيّر في الديناميكية (Volume) أو التلوين (Timbre) أو حتى تُدخل تغييراً مقامياً دقيقاً (Modulation)، مما يُحوّل الغناء إلى حوار روحي مع الجمهور، يحثّه على تذوق المعنى مرات عديدة وكأنه جديد في كل مرة.
ما يدعو للتأمل العميق هو كيف استطاعت أم كلثوم أن تجعل الجمهور الفرنسي يقف خمس ساعات في باريس، متأثراً بعمق، دون فهم حرف واحد من اللغة العربية. هذا يثبت أن صوتها يمتلك الـ “صوت” كعاطفة مُجردة.
التأثير الكُلثومي هو تجسيد لـ الفن الإنساني الكوني؛ فالرنين العميق لصوتها، وقوة أدائها الدرامي، وعمق الطقس الذي تخلقه حفلاتها، كل ذلك يتجاوز الدلالات اللغوية ليلامس وتر الشجن والحنين المشترك بين البشرية جمعاء.
وتبقى أم كلثوم حالة فريدة؛ حيث اجتمع فيها الضبط العلمي لأداء الحبال الصوتية مع الإحساس الأدبي والفلسفي بالنص. هذه المزاوجة هي التي ضمنت لها البقاء سيدة الطرب والظاهرة الكونية الخالدة في وجدان العالم.

