صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي



على مر العصور، رسم الإنسان تاريخ الحضارة الإنسانية بيده وعقله، تطورت علومه ومعارفه، وشيدت مدنه، وخططت مؤسساته، وتقدمت صناعاته، وحكمت اقتصاده، ثم جاءت الفلسفة والدين لتوجهه، ليصنع بذلك مزيجًا فريدًا من الفكر والعمل، من العقل والروح، من الحرية والنظام. أما في عالمنا العربي، فقد بدا وكأن هذا المزج بين العقل العملي والدين لم يكتمل بعد، فاختلطت المبادئ بالاجتهادات، والتوجيهات بالتصورات البشرية، لتصبح النتيجة واقعًا اقتصاديًا وسياسيًا هشًا، رغم الفهم الواسع والعميق للنصوص الدينية.

القرآن والمبادئ العامة: إطار أم دستور؟



القرآن الكريم، كتاب الله الخالد، الذي يتلوه البشر منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، يُرفع على أنه صالح لكل زمان ومكان. في جوهره، يقدم القرآن مبادئ عامة وقيمًا عليا: العدالة، الشورى، الرحمة، المسؤولية، والإنفاق على الفقراء والمحتاجين. هذه المبادئ صالحة لكل زمان، لكنها لا تحتوي على تعليمات تفصيلية واضحة حول كيفية إدارة الدولة، أو تنظيم النظام السياسي، أو وضع القوانين الاقتصادية والاجتماعية المعقدة، أو حتى إدارة البنوك والتعاملات المالية الحديثة.

هنا يكمن الفارق الجوهر بين النص والممارسة. فالقرآن ترك للبشر مساحة للاجتهاد، ليبتكروا نظمًا متكاملة تستطيع التكيف مع متغيرات الزمن والمكان. لكن مع الأسف، صار بعض العلماء وقيادات الدين يعتبرون أي اجتهاد خارج فهمهم الحرفي للنصوص مخالفة أو كفرًا، معتبرين أن الالتزام بالمبادئ العامة يعني الالتزام الصارم بالشكل الظاهر للنص، دون مراعاة الهدف الأساسي.


السياسة والموروث الديني: هشاشة المؤسسات



إذا نظرنا إلى التاريخ العربي الإسلامي، نرى أن قوة الحضارة كانت حقيقية في العلوم والفكر، لكن السياسة بقيت دائمًا منطقة هشّة. السبب لا يكمن في الغزو أو الاستعمار كما يروج البعض، بل في الموروث الديني الذي جعل الحاكم “ولي أمر المؤمنين” بصلاحيات مطلقة.

النتيجة: أي محاولة لبناء نظام سياسي بروتوكولي، قائم على المؤسسات، والضوابط، والإجراءات الواضحة، تصطدم بفهم أن الحاكم له الحق المطلق وأن أي تقويض لصلاحياته مخالف للشرع. لذا نشأت هشاشة دائمة في المؤسسات، حتى لو كان العلماء والمفكرون قادرين على وضع نظريات ونظم سياسية تمنع الانهيار وتحقق العدالة والمساواة بين الناس.

الصراع التاريخي بين تيارات الإسلاميين حول أحقية آل النبي محمد في الحكم أو الشرعية بالبيعة، يوضح أن النصوص المقدسة لم تحدد صيغة واضحة للحكم، بل تركت فضاءً واسعًا للاجتهاد البشري، لكن في الوقت ذاته أصبح أي اجتهاد خارج التفسير الحرفي للنصوص معرّضًا للرفض الديني الصارم.

الاقتصاد الإسلامي: التفاف شكلي على المبادئ



أحد الأمثلة العملية الأكثر وضوحًا لهذا التوتر هو التمويل الإسلامي.

الربا، أي منح قروض بفائدة، محرم في الإسلام، لأنه زيادة مالية على حاجة الإنسان وتسبب ظلمًا اقتصاديًا. لذا جاء التمويل الإسلامي بحل مبتكر: شراء السلعة أولًا، ثم بيعها للعميل مؤجلًا بسعر أعلى، بدل أن يُقرض المال بفائدة.

لكن عند التدقيق نجد:

السعر النهائي الذي يدفعه العميل في البنك الإسلامي غالبًا مماثل تمامًا لما كان سيدفعه في البنك التقليدي بفائدة.

حرية الاختيار محدودة، إذ يجب شراء السلعة عبر البنك، وليس مباشرة من السوق.

النتيجة: الشكل الشرعي موجود، لكن الروح الأساسية للتحريم (منع الظلم المالي وحماية المستهلك) لم تتحقق بالكامل.


في مثال عملي، إذا أردت شراء سيارة قيمتها السوقية 3000 دولار، سيطلب منك البنك الإسلامي 3750 دولار مقابل البيع المؤجل. نفس العملية تقريبًا لو أخذت قرضًا بفائدة من بنك تقليدي، لكن مع حرية أكبر في اختيار السيارة ومواصفاتها، وتجنب قيود البنك.

الفهم والتطبيق



ما تعلمناه من كل هذا المقال العميق هو أن:

1. القرآن الكريم يضع المبادئ والقيم العامة، لكنه لم يضع تعليمات تفصيلية لجميع مجالات الحياة الحديثة.


2. هشاشة الأنظمة السياسية في العالم العربي نتيجة تفسير النصوص الدينية بشكل حرفي، مع رفض الاجتهاد البشري في بناء المؤسسات.


3. التطبيقات الاقتصادية الإسلامية الحديثة، مثل التمويل الإسلامي، غالبًا ما تحافظ على الشكل الشرعي، لكن النتيجة الاقتصادية والعملية تشبه ما تحرمه النصوص، وهو تجاوز لروح المبادئ الأصلية.


4. الحل الحقيقي يكمن في فهم النصوص بشكل يوازن بين المبادئ والقيم من جهة، واحتياجات الواقع العملي من جهة أخرى، بدل الالتفاف على النصوص أو رفض الاجتهاد.





إن العالم العربي، إذا أراد أن يحقق حضارة متقدمة ومستقرة، عليه أن يتعلم من التاريخ: المبادئ الدينية قيمة، لكنها لا تغني عن بناء مؤسسات قوية، أنظمة بروتوكولية، تشريعات عقلانية، وآليات اقتصادية فعالة. حينها فقط سيصبح الالتزام بالدين قوةً لبناء الدولة والمجتمع، لا عائقًا أمام التنمية والتقدم.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد