صدى الواقع اليمني – كتب : حسين الشدادي






أنا حسين الشدادي، خريج كلية الإعلام – قسم الإذاعة والتلفزيون – من جامعة صنعاء لطالما كنت ابن الكلمة الحرة، وجنديها حين يصهل الحق في ميادين المعركة كنت هناك، في ذروة الحرب، على تخوم جبهة جازان السعودية، أغطي المواجهات تحت راية الإعلام الحربي للتحالف العربي، عيني لا تغمض عن الحقيقة، وقلبي لا ينام عن القضية.

وفي خضم المعركة، خانتني الأقدار، لا لذنب اقترفته، بل إثر وشاية كاذبة وضيعة، أُلقي بي على إثرها في ظلمات أحد أسوأ سجون الاستخبارات العسكرية السعودية، وأنا الذي لم أعرف السجن يوماً خرجت من ذلك القيد بجسدٍ حرّ، لكن بروحٍ مثقلة بانكسارٍ دفين، لا يُرى بالعين المجردة عدت إلى اليمن، أحمل في داخلي طين الحزن، وتلقيت العلاج النفسي سنوات طوال، وكنت أتناول أدوية الاكتئاب الحاد بانتظام، أملاً في أن أستعيد ذاتي التي تاهت بين القضبان وظلم ذوي القربى.

وحين انتهت إجازتي وانقطعت سُبل العودة إلى عملي، لم يُضنِني القرار، فقد كنت حينها أمتلك من المال ما يكفيني لبدء حياة جديدة بحثت بين ركام بلدي الجريح عن بصيص أمل، عن مشروع صغير يتنفس برأس المال الذي أملكه، لكن كل ما وجدته إما يتطلب أموالاً طائلة، أو يخاطر بالفشل في بيئة استثمارية خانقة.

وما بين التردد والطموح، قادتني الظروف إلى زراعة القات، تلك النبتة التي تحولت إلى ذهبٍ أخضر في قريتي، وصار الجاهل مليارديراً يركب الفارهات بفضل زراعتها وجدت في أرض أبي الواسعة فرصة، فزرعت نحو مئتي حبل قات، وكانت أيام وفرة المياه والمطر تبشّر بحصاد وفير وحقاً، كانت أولى المواسم ذهبية، تجاوزت القطفة فيها خمسة عشر مليون ريال قعيطي.

غير أن النعيم لا يدوم، ولا الماء يظل رقراقاً كما كان قلت الأمطار، فحفرت بئراً، فكانت خائبة حفرت أخرى، فنبع فيها الماء، فبكيت فرحاً، لكن الفرحة ما لبثت أن ذبلت؛ فالماء كان شحيحاً، لا يكفي لريّ أحلامي الظمأى لجأت إلى مياه الضباب المنقولة بالمقطورات، فابتلعتني كلفة الري، ثم جاءت الكارثة الكبرى: شحّ المطر، وجفاف الآبار، وانهارت المزرعة ماتت أوراق القات، ومات معها أملي الوحيد، وتوقفت الحياة.

وها أنا الآن، أئنُّ تحت وطأة الديون الكبيرة ما يعادلها ثروة لدى فقراء هذا البلد، بل أضعاف أضعاف قوت عام كامل لأسرة تعيش على الكفاف ومع إفلاسي، توقفت عن شراء أدويتي النفسية الضرورية، وتدهورت صحتي العقلية، وسقطت في هوة الانتكاس بعد أن كنت على أبواب التعافي بدأت أعيش هلوسات قاتمة، أفكاراً سوداوية، وبلغ بي الضيق أني كفرت بالله، لا لشيء إلا لأن الدعاء كان لا يُستجاب، والسماء لا تمطر، والضيق يشتد، والقلوب من حولي تصمت.

بعت منذ أيام رافعة قديمة كنت أملكها في المزرعة، بثمن بخس وبدين مؤجل، فاشتريت أدوية تكفيني لثلاثة أشهر، ومنحت نفسي وجبة طعام لم أعرف مثلها منذ شهور، وحزمة قات كريمة، علّي أستعيد قليلاً من اتزاني المفقود.

فتحت هاتفي، دخلت صفحتي على فيسبوك، فصدمتني كلمات كنت قد كتبتها في لحظة انهيار أقسم بالله، شعرت بالخجل من نفسي مسحت المنشور، واستغفرت ربي بدموع لا تجف، وبكيت كثيراً، وسألته أن يقبل توبتي، ويغفر لي لحظة الضعف تلك، حين فقدت الثقة، وكدت أن أهوي قبل شهر في هوة الانتحار، لولا ستر الله ورحمته.

أقولها بمرارة: كنت على شفير هاوية كنت قبل شهر أتهيأ لارتكاب الحماقة الكبرى الانتحار لكني أؤمن اليوم أن الاكتئاب الحاد ليس ضعفاً دينياً، بل هو مرض قاتل، إذا لم يجد صاحبه يداً تمتد إليه، أو كلمة تُربّت على قلبه.

أحمّل المسؤولية من حولي، للأهل والأصدقاء، الذين يعرفون حجم المصيبة التي حلت بي، ولم يسألوا، لم يتفقدوا، لم يمنحوني حتى دفء الكلمات هؤلاء الذين ما بخلت عليهم أيام بحبوحتي، وكنت أفتح لهم قلبي قبل مزرعتي، تخلّوا عني حين أفَل القمر وانطفأت الشمس في صدري.

رسالتي إليكم جميعاً: تفقدوا أحبتكم اسألوا عن إخوتكم كونوا السند لمن حولكم فالاكتئاب لا يراه أحد، لكنه يأكل صاحبه حيًّا والانتحار ليس ضعفاً في الدين، بل غالباً ما يكون صرخة أخيرة يطلقها قلب مكسور، لم يسمعه أحد.

أما أنا، فما زلت أحاول أن أتشبث بالحياة، بفضل الله، ثم بجرعة دواء، ودعاءٍ نقي، وأملٍ في قلب الليل…
وهذا والله المستعان.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد