صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي
في الطريق “المسبلة” ـ كما يصفها بعضهم ـ لم تكن الأقدام تمضي على رصيف القانون، بل كانت تخطو على شفير السقوط الكبير، حينما تم اعتقال القيادي الحوثي الشيخ أحمد الزايدي ولا يخفى على أحدٍ أن عبارة “الطريق المسبلة” لا تحمل معنىً محدداً في قواميس اللغة ولا خرائط الوطن، لكنها في وجدان العامة باتت تشير إلى الطريق التي “يُسبَل” فيها القانون، أي يُسْتَثنى فيها أهل النفوذ من المحاسبة، ويُفصل فيها العدل على مقاس القوة والعرف والمصالح، لا على معايير الجمهورية والدستور.
فما معنى أن يُعتقل رجلٌ، قَبِل على نفسه أن يكون رأس حربة في مشروع الإمامة الجديد، ثم تبدأ الأصوات ـ من حيث لا يُنتظر لها صوت ـ بالبكاء عليه، لا بوصفه خصماً أو شريكاً في حربٍ دمّرت البلاد، بل لأنه “كبير قوم”!
وكأن “كبر القوم” صار صك براءة أزلي، أو كما لو أن الانخراط في المشروع الكهنوتي يصبح حلالاً إذا ما تم على صهوة نسب، أو في ظل عباءة قبيلة.
أليس في هذا الفهم طعنة في صميم الدولة؟!
ألا يدل هذا المنطق ـ الذي يضع العصبية قبل الدستور، والقرابة قبل القانون ـ على أن الجمهورية لا تزال في قبضة من لا يؤمنون بها، وإن تزينوا باسمها؟!
في ظاهر الأمر، اعتقال الزايدي خطوة موفقة لو أنها جاءت من سلطة تحكمها القيم، ويضبط سلوكها القانون، وتحكم قرارها المبادئ الوطنية لكن حين نُمعن النظر، نجد أنفسنا أمام مشهد عبثي: سلطة مشلولة، بلا قوة، بلا مشروع وطني، تحكمها التحالفات الهشة، وتسوسها الأوامر المتقاطعة من العواصم.
ما الذي يُنتظر من “شرعية” لا تُبنى على قانون، ولا ترتكز على ميثاق جمهوري، بل تقوم على جماعات متنافرة، جمعتها المصلحة المؤقتة لا الهدف المشترك؟
هل يُرجى من سلطة كهذه أن تحمي الوطن، وهي التي لا تملك حتى قرار اعتقال أو إفراج دون أن تُشير أصابع الخارج؟!
من يتوهم أن اعتقال الزايدي جاء انتصاراً للجمهورية، أو تمهيداً لمحاكمته كمجرم حرب، فهو لم يفهم بعد تركيبة هذه “الشرعية” ف الزايدي ـ في حساباتها ـ ليس خصماً ولا خائناً، بل “ورقة”، وورقة قد تُستخدم في مقايضات قذرة، أو تُلوّح بها في طاولات التفاوض، أو تُلقى في لحظة ضعف ك قربان في مذبح الترضيات السياسية.
من لا يملك سلاحه، لا يملك موقفه.
ومن لا يملك قراره، لا يملك شرف خوض معركة.
فكيف بسُلطة كهذه، تُمسك الزايدي ثم تُفكر ألف مرة قبل أن تحيله للمحاكمة، خشية من انفجار قبلي، أو ضغوط خارجية، أو خوف من فتنة تحرّكها المليشيا من خلف الستار؟!
نعم، سيفرجون عن الزايدي على الأرجح ليس اليوم ربما، بل غداً أو بعد غد.
سيفرجون عنه، لا لأنهم رأوا فيه بريئاً، ولا لأنهم أقاموا عليه حُجة ثم بَرّأوه، بل لأنه ثَقُل عليهم وجوده، ولأنهم لا يملكون ما يكفي من القوة لتحمّل تبعاته.
الدماء التي نزفت من صدور أبناء تعز ومأرب والبيضاء والجوف وصعدة والساحل الغربي، لم تُسكب كي تُحكمنا جماعات لا تفرق بين قيمة الدولة ووجاهة الشيخ
لم نَحمل السلاح ونقف على متاريس الدفاع عن الجمهورية، لنرى من خانها بالأمس يُستقبل غداً بالبخور والرايات، لأنه من قبيلة “محترمة”!
ولا يليق بجمهوريتنا أن تُساوي بين من صان ترابها، ومن فتح أبواب صنعاء أمام الكهنوت.
إذا كانت الجمهورية التي نُقاتل لأجلها ستُفرّط في كل قيمة، وتُجامل في كل مبدأ، وتساوي بين الجلاد والضحية، فلا حاجة لنا بها.
وإذا كانت الشرعية الحالية ـ بصيغتها المهترئة ـ ستُفرج عن الزايدي، فلنفهم أنها لم تعد تمثلنا، ولا تعبّر عنا.
وليعلم الجميع: من لا يملك قراره، لا يستحق قطرة دم تُراق لأجله.