صدى الواقع اليمني – تقرير: حسين الشدادي

في الوقت الذي لا تزال فيه جبهة غزة تلتهب وتُثقل كاهل الجيش الإسرائيلي بخسائر بشرية هي الأعلى منذ عقود، تتفاقم أزمة داخلية تهدد بزعزعة التماسك المجتمعي الإسرائيلي، وتعيد إلى الواجهة ملفاً قديماً ظل مؤجلاً لعقود: تجنيد اليهود الأرثوذكس المتشددين، أو ما يُعرف بـ”الحريديم”، في صفوف الجيش الإسرائيلي.

فقد شهدت مدينة القدس، يوم الاثنين الماضي، احتجاجات حاشدة أمام المحكمة العليا، تخللتها صدامات عنيفة بين الشرطة ومئات من أبناء طائفة “الحريديم” الرافضين للتجنيد الإجباري، بالتزامن مع بدء المحكمة جلسات استماع حاسمة للنظر في الطعون المقدمة ضد الإعفاءات الدينية التي تمنح لهذه الفئة منذ تأسيس الدولة عام 1948.

جذور الأزمة: إعفاء ديني أم تمييز غير عادل؟



منذ تأسيس إسرائيل، تمتّع الحريديم بإعفاء خاص من الخدمة العسكرية، بناءً على اتفاق غير رسمي أقرّه رئيس الوزراء المؤسس ديفيد بن غوريون، تحت مبرر الحفاظ على استمرارية دراسة تعاليم الدين اليهودي. وكان ذلك في وقت لم يتجاوز فيه عدد الحريديم عدة مئات، أما اليوم فقد أصبحوا يشكلون نحو 13% من سكان إسرائيل، ويتوقع أن تصل نسبتهم إلى 19% بحلول عام 2035، نظراً لمعدلات الإنجاب المرتفعة داخل هذه الجماعة.

مع هذا التوسع العددي، أصبح الإعفاء محلّ انتقادات لاذعة من قطاعات واسعة من الإسرائيليين، خاصة العلمانيين ومجندي الجيش النظاميين الذين يرون في تلك الإعفاءات تمييزاً صارخاً وتقويضاً لمبدأ “تقاسم العبء الوطني”.

وقد عبّرت حركة “من أجل جودة الحكم في إسرائيل”، وهي من أبرز مقدمي الطعن في المحكمة، عن هذا السخط بقولها:
“المساواة في العبء ليست شعاراً، بل هي ضرورة استراتيجية وأمنية، وهذا المطلب بالمساواة الحقيقية في التجنيد، يجب أن يتقاسمه كل من يحمل هذا البلد العزيز في قلبه.”

منظومة الحريديم: مجتمع داخل مجتمع



ينتمي الحريديم إلى تيار ديني متشدد جداً في اليهودية الأرثوذكسية، وتتمحور حياتهم حول الدراسة الدينية والعبادات. فهم يقضون أيامهم في الصلاة والدراسة بمعاهد التوراة، يرفضون الاختلاط، ويمنعون العمل يوم السبت، ويعيشون في مجتمعات منغلقة على نفسها، ترفض الاندماج في أنماط الحياة الغربية أو العلمانية.

يعتقد الحريديم أن دراسة التوراة هي “سلاح روحي” لحماية إسرائيل، بل إنهم يعتبرونها تعادل أو تفوق في أهميتها الخدمة العسكرية. ولذلك، يرون أن إرسال أبنائهم إلى المعاهد الدينية هو مساهمة في أمن الدولة على طريقتهم.

ويصر ممثلوهم السياسيون في الكنيست والحكومة على أن دور الرجل المتدين هو “دراسة التوراة وليس حمل السلاح”، وقد استخدموا نفوذهم مراراً للحفاظ على الإعفاءات، ما جعل ملف تجنيدهم يتعثر لعقود.

قرارات قضائية ومأزق سياسي



في عام 2018، أبطلت المحكمة العليا القانون الذي يعفي الحريديم من التجنيد، واعتبرته مخالفاً لمبدأ المساواة. ورغم ذلك، أخفقت الحكومات المتعاقبة في سن قانون بديل ينظم المسألة، واكتفت بتمديد أوامر حكومية بتعليق التجنيد، وهي أوامر ينتهي مفعولها الشهر المقبل، ما يعني أن الحريديم أصبحوا رسمياً تحت طائلة التجنيد، ما لم يتم سن قانون جديد.

وتواجه الحكومة الإسرائيلية اليوم ضغوطاً شديدة من المعارضة ومن قوى المجتمع المدني ومن الجنود النظاميين، في ظل الحرب المستمرة في غزة، وارتفاع أعداد القتلى في صفوف الجيش. وقد أعلن الجيش مؤخراً أنه سيصدر 54 ألف أمر استدعاء لطلاب المعاهد الدينية، في خطوة تشير إلى تحول نوعي في التعامل مع الملف.

الحريديم: التجنيد تهديد للهوية الدينية



الحريديم لا يرفضون الخدمة العسكرية فحسب، بل يعتبرونها تهديداً مباشراً لهويتهم الدينية. فهم يرفضون الاختلاط بين الجنسين، وهو ما يتعذر تطبيقه في الجيش الإسرائيلي، كما يعارضون العمل أيام السبت والاحتكاك اليومي بالقيم العلمانية.

ويؤكد كبار الحاخامات أن الانخراط في الجيش يعني المساس بنقاء الدين، ويخشون من تأثير البيئة العسكرية على شبابهم، الذين نشؤوا في بيئة دينية صارمة لا تسمح بمشاهدة التلفاز أو استخدام الإنترنت أو حتى الحديث مع الغرباء من غير طائفتهم.

حرب غزة وأزمة التجنيد: تعرية الفجوة المجتمعية



في ظل العمليات العسكرية العنيفة في غزة والمواجهات المتكررة مع حزب الله على الجبهة الشمالية، تشعر قطاعات واسعة من الإسرائيليين بأن الدولة وصلت إلى مرحلة لم تعد فيها قادرة على تحمل “الترف” الديني لإعفاء عشرات الآلاف من الشباب المؤهل للخدمة.

وتزايدت الأصوات الغاضبة في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، التي اعتبرت استمرار إعفاء الحريديم “خيانة للدماء” التي تُسفك على الجبهات.

كما أظهرت استطلاعات رأي حديثة أن أكثر من 70% من الإسرائيليين يدعمون إلغاء الإعفاءات الدينية وفرض التجنيد على الجميع دون استثناء، ما يزيد الضغط على الحكومة والمحكمة في آن معاً.

معركة هوية أم نزاع قانوني؟



إن أزمة تجنيد الحريديم ليست مجرد مسألة قانونية أو سياسية، بل تمثل صراعاً عميقاً على هوية الدولة نفسها: هل هي دولة يهودية دينية يحكمها التلمود والتوراة؟ أم دولة علمانية ديمقراطية حديثة يسري عليها القانون المدني؟

هذا الصراع، الذي انفجر مجدداً تحت نيران حرب غزة، يعكس التناقضات البنيوية داخل المجتمع الإسرائيلي، والتي يبدو أنها ستتفاقم مع مرور الزمن، خاصة إذا استمر الحريديم في التوسع العددي والنفوذ السياسي.

ومع اقتراب انتهاء سريان أوامر الإعفاء، تبدو إسرائيل أمام مفترق طرق حاسم: فإما الحسم القانوني بفرض التجنيد على الجميع، أو التسوية السياسية التي قد تُبقي الجمر تحت الرماد.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد