صدى الواقع اليمني – كتب : حسين الشدادي

في زحمة التاريخ الملطخ بالدم والخذلان، وفي دهاليز السياسة التي تتوارى فيها المبادئ خلف الستائر السميكة للمصالح، تولد الأسئلة الملتهبة، تلك التي تُقلق السُّذج وتُحرج العارفين، ومنها: من أنشأ حركة حماس؟ ولماذا تقيم قيادتها في قطر، وهي ذاتها التي تحتضن قواعد عسكرية أمريكية، فيما أمريكا هي الكف الراعية لإسرائيل، العدو الأول لحماس؟ أليس هذا التناقض هو الدليل الحي على زيف الشعارات وازدواجية المعايير في عالم تحكمه شهوة القوة لا قداسة المبادئ؟

أول الحكاية… من رحم الانتفاضة



في الرابع عشر من ديسمبر لعام 1987، وفي خضم الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اشتعلت شرارتها في جباليا إثر دهس شاحنة صهيونية لعمال فلسطينيين، ولدت “حماس” من رحم جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين. لم تكن آنذاك حركة مقاومة تحمل السلاح، بل كياناً دعوياً خيرياً يتلمس طريقه في ساحة كانت حكراً على فصائل منظمة التحرير. بيد أن التحولات الكبرى لا تبدأ دوماً بالطلقات، بل غالباً ما تبدأ بالأفكار، وحماس لم تكن استثناء.

إسرائيل… راعية دون أن تدري؟



يُتَّهم الاحتلال الإسرائيلي، أو بالأحرى يُشار إليه، بأنه سمح لحركة حماس في بدايتها بأن تنمو في الظل، غضّ الطرف عن نشاطها الدعوي والاجتماعي في غزة، بل يُقال إنه فتح لها الأبواب التي أُوصدت في وجه غيرها، لا حباً بها، ولكن كرهاً في منظمة التحرير، ولاسيما جناحها المسلح “فتح”. هكذا، بطريقة غير مباشرة، ساهم الاحتلال في تمكين كيان سيكون لاحقاً أحد ألدّ أعدائه، فهل أخطأ الحساب أم أصاب؟ تلك معادلة لا يحكمها المنطق، بل عبثُ التاريخ.

الدوحة… حيث يقيم السياسيون ويتقاتل الميدانيون



من دمشق إلى الدوحة، كانت الرحلة محفوفة بالتبدلات الحادة في المواقف، فقد غادرت قيادة حماس العاصمة السورية بعد انحيازها لنبض الشعوب في بدايات الربيع العربي، لتستقر في كنف قطر، الإمارة الصغيرة التي باتت مركزاً كبيراً للقرارات الإقليمية.

في الدوحة، وجد قادة حماس الملاذ الآمن، فإسماعيل هنية، وخالد مشعل، وآخرون، يقيمون هناك، حيث تُبذل المليارات، وتُعقد التفاهمات، وتُدار الملفات بما فيها ملف غزة، وسط تنسيق قطري ـ إسرائيلي ـ أممي، برعاية أمريكية صامتة.

قطر… الوجه المزدوج الذي لا يحمرّ



هنا يبلغ التناقض ذروته. فكيف لحماس، العدوّ اللدود لإسرائيل، أن تجد في قطر أرضاً للراحة السياسية، بينما تحتضن الأخيرة أكبر قاعدتين عسكريتين أمريكيتين في المنطقة، إحداهما “العديد” التي تُدار منها أغلب العمليات الجوية الأمريكية في الشرق الأوسط؟ أليست أمريكا هي الحاضن الأوفى لإسرائيل، الداعم اللامشروط لها، والرافض لأي شرعية تقاومها بالسلاح أو حتى بالكلمة؟

الجواب لا يوجد في دهاليز الأخلاق، بل في موازين المصالح. فالعلاقات الدولية في عصر ما بعد الحقيقة، لم تعد تُبنى على الثوابت، بل على القدرة على اللعب فوق الحبال دون السقوط. وقطر، في ذلك، أتقنت الدور: فتحت خزائنها لغزة، وفتحت مجالها الجوي للطائرات الأمريكية، وأبقت شعرة معاوية ممدودة مع تل أبيب وواشنطن وطهران والإخوان، في آنٍ معًا، وكأنها تقول: “نحن كل الأوجه في وجه واحد”.

هل حماس شريك أم ورقة؟



بعضهم يرى أن أمريكا لا تنزعج من بقاء حماس، بل تحتاجها، كورقة ضبط، وكبندقية قابلة للضغط أو التفجير حسب مقتضيات المرحلة. فوجود حماس يمنح “الشرعية الأخلاقية” لدولة الاحتلال كي تقول إنها تواجه “إرهاباً”، ويمنح أمريكا فرصة لابتزاز الجميع، ويفتح لقطر بوابة النفوذ الإقليمي.

حماس نفسها، من جانبها، تدرك التناقض، لكنها ترى فيه فسحة للمناورة السياسية، فطالما لا يُفرض عليها تغيير في ميثاقها أو سلاحها، فلتكن الإقامة حيث الأمان السياسي والمالي، ولو كان تحت ظل “العديد”.


وبين غزة التي تحترق، والدوحة التي تستضيف، وواشنطن التي تراقب، وتل أبيب التي تستثمر في الانقسام، يظل المشهد الفلسطيني غارقاً في الغموض. وحماس، في قلب هذا المشهد، تمارس السياسة بوجه، والمقاومة بوجه، وتعيش في حضن من يُفترض أنه عدوّ عدوّها.

وهكذا، يتكرر السؤال: هل التناقض نقيصة، أم حيلة البقاء في زمن تتقاطع فيه البنادق والدولارات؟

الجواب ليس في الكتب، بل في الدم النازف على حدود غزة، وفي العواصم التي لا تخجل من التعايش مع كل المتناقضات، طالما أن مصالحها في مأمن.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد