صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي

ما أقسى أن يكتب الابن عن أبيه، لا بصفته أباً عادياً، بل بصفته جبلاً من الجبال التي لا تهتز، وشجرةً وارفةً لا تنكسر، ونبعاً فياضاً لا ينضب إلا حين يجور عليه الزمن! وما أعظم أن تُمسك القلم لتخطّ حكاية رجلٍ ليس كغيره من الرجال، رجلٍ هو والدي، الشيخ عبدالله عبدالجليل محمد علي صالح الشدادي، شيخ مدينة يفرس وضواحيها، وسليل أسرةٍ ضاربة الجذور في عمق التاريخ، كابرٌ عن كابر، سادةُ قومٍ ووجهاؤهم، وأهل رأيٍ ومكانةٍ وهيبة.

وُلد والدي في حضن المجد. فجده الشيخ محمد علي صالح الشدادي كان كبير القوم في جبل حبشي، بل وفي تعز كلها، رجلٌ ذو نفوذٍ وقوةٍ ومكانة سياسية واجتماعية مرموقة، حتى أن الإمام نفسه –حاكم اليمن يومها– لم يطمئن لولائه إلا بأن أخذ ابنه عبدالجليل رهينةً وزجّ به في سجن القاهرة بحجة. أي أسرة هذه التي كانت ولاءاتها ومواقفها تُقاس بميزان الدولة؟ وأي تاريخ هذا الذي أودع في دماء أبي صلابةً لا تلين وكبرياءً لا يُشترى؟

نشأ أبي على هذا الإرث الثقيل. لم يكن مجرد شاب من شباب القبيلة، بل كان منذ نعومة أظافره يَفرض حضوره: بنيةٌ جسدية قوية، صوتٌ جهوريٌ يهزّ القلوب قبل الجدران، وكاريزما لا تُكتسب بالتكلّف بل تُولد مع أصحابها. وحين رحل جدّي عبدالجليل، أصبح أبي شيخاً على يفرس وضواحيها، وارثاً للزعامة، لكنه لم يورثها كما يورَّث المال، بل حملها حملاً على كتفيه، والتزم بها التزام الرجل الذي يعي أن “الشيخة” ليست لقباً يتزين به المرء، بل عبءٌ يُثقل كاهله ويضعه في خدمة الناس قبل خدمة نفسه.

يفرس ليست مجرد بلدة عابرة؛ إنها مدينة التاريخ والروح، حيث يرقد الإمام العارف بالله أحمد بن علوان، وحيث المسجد الذي يبلغ عمره تسعة قرون، وحيث كانت الوفود من شتى أصقاع الأرض تزور المكان طلباً للبركة والمعرفة والجمال. في قلب هذا المكان العريق، وقف والدي شيخاً لا يكتفي بأن يكون رمزاً قبلياً، بل جعل نفسه سلطةً محلية، مجلساً خدمياً، طبيباً، وملجأً للفقراء والمرضى.

أذكر أنه قضى عاماً كاملاً في صنعاء بعيداً عنّا –عن أمي، عني، عن إخوتي– يتنقل بين الوزارات، يطرق أبواب المسؤولين، يذيب حذاءه في أرصفة العاصمة، ينفق من جيبه، لا يطلب مقابلاً، فقط ليعود بمشاريع تُنير ظلام يفرس. وبفضل صبره وإصراره، رأينا الإسفلت يمدّ شرايينه في طرق قريتنا، ورأينا الماء يتدفق في الأنابيب، ورأينا الكهرباء تضيء البيوت، ورأينا المدارس تُبنى، والمجمع الحكومي يرتفع، والمستوصف الصحي يفتح أبوابه. أي أب هذا الذي يهجر فراشه وعياله ليبيت على أرصفة المكاتب الباردة، من أجل أن يبتسم الغريب في قريته؟

لكن والدي لم يكن سياسياً فقط، بل كان أيضاً طبيب القلوب والأجساد. ورث من أبيه علماً واسعاً بالطب العربي –الطب البديل– فكان الناس يقصدونه من كل فج عميق. لم يكن يشترط مالاً ولا يُقايض صحّة إنسانٍ بذهب الدنيا. كان يعالج الناس، يهيئ لهم الدواء من جيبه، ويستضيفهم في منزلنا الكبير شهوراً وسنين، يطعمهم، يسقيهم، يُداويهم، وكأنهم أهله. بيتنا لم يكن بيت أسرة صغيرة، بل كان بيت الأمة كلها.
أذكر تلك السيدة من زبيد، التي جاءت باحثةً عن علاج، فشُفيت بيد أبي. عادت بعد أشهر بسيارةٍ محملةٍ بالحبوب والبهارات والشاي، ومعها ثلاثة شوالات مملوءة بالعملات المعدنية، وثم مليون ريال يمني، مبلغاً كان عظيماً يومها. فماذا فعل أبي؟ وزّع المال على الناس كما يوزّع المطر قطراته على الأرض العطشى، لم يحتفظ بشيء لنفسه.

كان والدي أباً ليس لي وحدي. لم أعرفه يوماً أباً “خاصاً”، بل كان أباً للجميع: لإخوته، لزوجاتهم، لأبنائهم وبناتهم، لشباب آل الشدادي كلهم. كان يُطعم، يُنفق، يُعطي، حتى كدتُ أظن أن حبه مقسوم بالتساوي بيني وبين الآخرين. لم أشعر أنه يفضلني، بل كنتُ أحياناً أظنه لا يراني. كنت طفلاً مغفلاً، لا أفهم أن التضحية العظمى هي أن تُنفق روحك على الجميع حتى يظن أقربهم أنك نسيتَه.

لكن يا لحسرة القلب! الناس الذين أفنى عمره في خدمتهم، الذين وزّع عليهم المال والدواء والوقت والعافية، تنكّروا له حين أدار الزمان ظهره. أصيب أبي بسرطان الدماغ، ذلك المرض الغادر الذي لا يعرف الرحمة. سافر إلى الأردن للعلاج، وباع أراضيه وممتلكاته لينقذ حياته. عاد إلينا جسداً أنهكه الكيماوي، رجلاً كان جبلاً فصار واهناً، لكنه بقي عظيماً في عيني. لم أره يوماً يشكو، بل قاوم الضعف بعزيمةٍ من فولاذ. لكن الظروف كانت أقسى من المرض: المال تبخّر، الممتلكات ضاعت، والدنيا أثقلت كاهله بالمعاناة.

واليوم، وأنا أكتب هذه الكلمات، يُمزّقني الندم. كنتُ طفلاً لا يُدرك أن أبي حين لم يفضلني على أولاد عمي لم يكن يحرمني، بل كان يعلّمني أن الأب العظيم ليس أباً لبيته فقط، بل أباً للقرية كلها. كنتُ أظنه أنانياً، بينما كان أوسع الناس قلباً وأكرمهم نفساً. آهٍ لو أملك اليوم مليار دولار، والله ما أبقيت منه درهماً إلا أنفقته في راحته ورعايته، في تزيين شيخوخته، في جعل أيامه جنةً على الأرض.

أعيش الآن تأنيب الضمير، أرفع كفي إلى السماء وأقول:
اللهم احفظ أبي، أطِل عمره، ارزقه عافيةً لا تفنى، وصحةً لا تزول، وراحةً تليق بما بذل من أجلنا جميعاً. اللهم إن كان العمر يُشترى لاشتريت له عمراً آخر بعمري، وإن كانت الراحة تُستعار لأعرتُه راحتي.

أبي… يا أبي، لو جفّت الدنيا كلها، لن يجفّ حبي لك. ولو تنكّر لك العالم، فها أنا ذا ابنك، أجثو أمام عظمتك وأقول: سامحني على جهل طفولتي، وامنحني فرصة أن أرد بعض جميلك، أو على الأقل أن أكون شاهداً أكتب سيرتك للأجيال، علّهم يعلمون أن العظمة ليست في المنصب ولا المال، بل في أن تكون أباً للجميع، كريماً مع الجميع، وأن تكون عظيماً حتى وأنتَ تُصارع المرض والفقد.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد