صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي

في إحدى حلقات برنامج الفرنجة، الذي قدّمه الثلاثي المصري أحمد فهمي، وشيكو، وهشام ماجد، برز مشهد ساخر لكنه عميق في دلالاته، ثلاثة شباب مصريين في صربيا يعيشون تجربة يومية تكشف التناقض الصارخ بين السلوك العربي والمجتمعات الأوروبية، تتبدى المفارقة في التفاصيل الصغيرة: نظافة المكان، احترام العمل، الكرامة الإنسانية، والوعي بالمسؤولية الفردية.


الحلقة، وإن جاءت في قالب فكاهي، فإنها فتحت باباً واسعاً للتأمل في إشكالية عميقة يعيشها الوعي العربي منذ قرون: التناقض بين القيم الإسلامية الراسخة في النص، والممارسة الواقعية التي تعكس انفصالاً شبه تام عن تلك القيم.

في المشهد الذي استعان فيه الأبطال بعاملة منزلية صربية، تحوّل التعامل معها إلى مرآة فاضحة للعقلية التي ترى في “الخادمة” مخلوقاً أدنى، لا كإنسانة لها كرامتها وحقوقها. هذا النمط من التفكير ليس مصرياً بحتاً ولا حصراً عربياً، لكنه يعكس منظومة ثقافية متجذرة في مجتمعاتنا العربية، حيث يُقاس التفوق بالمال والمكانة، لا بالوعي والاحترام الإنساني.

قد يرى البعض أن هذا مجرد طرح فني، لكن الحقيقة أن الواقع العربي يؤكد تلك الصورة يومياً. ففي دول ثرية كالسعودية والإمارات، برغم التقدم العمراني والمادي الهائل، ما تزال العمالة الأجنبية – خصوصاً من النساء – تعاني من مظاهر استغلال وإساءة معاملة تُوثّقها كاميرات العالم وتفضحها وسائل التواصل. يحدث ذلك في ظل أنظمة قانونية واقتصادية تمنح المواطن امتيازاً مطلقاً على العامل الأجنبي، مما يرسّخ الشعور بالتفوّق القومي والديني في آن واحد.

لكن المشكلة، في جوهرها، ليست في غياب الدين، بل في غياب الوعي القيمي الذي يُترجم الدين إلى سلوك. فالإسلام في نصوصه مؤسسة إنسانية كبرى قائمة على الكرامة، والعدل، والمساواة، والإحسان. غير أن المجتمعات العربية حولته إلى مجرد هوية انتماء، لا منهج حياة. يكفي أن يكون الإنسان “مسلماً” بالاسم ليعتقد أنه بالضرورة أرقى من “الكافر”، حتى لو كان الأخير أكثر التزاماً بالعدل، والأمانة، واحترام الإنسان.

المفارقة المؤلمة أن العربي يعوّض شعوره بالعجز والتخلّف بالاحتماء في النصوص. النص يمنحه شعوراً بالتفوّق الافتراضي، في حين أن الواقع يفضحه. وبينما تنهمك الشعوب الأخرى في تطوير الإنسان، ما زالت المجتمعات العربية تحاكمه بمعايير الطهارة الشكلية والانتماء الديني.

ولعل المثال الأبرز هو أن كثيراً من الدعاة الذين يهاجمون الغرب “الكافر” يعيشون حياتهم الخاصة وفق النمط ذاته الذي يهاجمونه علناً. تكررت المشاهد التي تكشف ازدواجية الخطاب والسلوك: من الداعية الذي يهاجم الغرب بينما تقيم أسرته فيه وتعيش على طريقته، إلى رجال دين ينادون بالتقشف والزهد بينما يركبون أفخم السيارات ويقتنون ما لا يقتنيه إلا الأثرياء الغربيون الذين يصفونهم بالكفر والضلال.

المشكلة إذن ليست في الدين ولا في النص القرآني، بل في المتلقي العربي الذي لم يتجاوز بعد مرحلة التبرير إلى مرحلة النقد الذاتي. لم يدرك بعد أن جوهر التحضر ليس في الشعار، بل في الفعل، وأن القيم لا تكون إسلامية لأنها وردت في القرآن، بل لأنها إنسانية أولاً، وشاملة لكل البشر.

إن العالم لا يحترم الشعارات، بل يحترم التطبيق. وما دام الإنسان العربي يرى نفسه “خير أمة” بمجرد الانتماء، فسيبقى عاجزاً عن إدراك أن الخيرية لا تُمنح بالنسب، بل تُكتسب بالوعي والسلوك.
حينها فقط، يمكن أن يتحول الإسلام من نصّ يُتلى إلى واقع يُعاش، ويصبح العربي مؤمناً بحق، لا بالوراثة، بل بالعقل والممارسة والكرامة.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد