صدى الواقع اليمني – هيئة التحرير
في بلدٍ مثخنٍ بالحرب والانقسام، أصبح الإعلام اليمني مرآةً لتشظي الوطن نفسه، انقسمت القنوات والمواقع والمنصات كما انقسمت الجبهات، وصار الولاء المذهبي والسياسي شرطًا للبقاء في أي مؤسسة إعلامية، في هذا المشهد الملبّد بالأيديولوجيا والدعاية، تبرز قصة الصحفي حسين الشدادي — خريج كلية الإعلام والعلاقات العامة من جامعة صنعاء — كواحدة من أكثر الشهادات صدقًا وجرأة على توصيف الواقع الإعلامي اليمني، لا بوصفه حكاية شخصية فحسب، بل كصورةٍ مكثفةٍ لصراع الضمير المهني في زمن الحرب.
منذ بداياته المهنية، لم يكن الشدادي مجرد ناقلٍ للحدث، بل مراقبًا حادّ البصيرة، يفكك الخطاب الإعلامي ويفصل بين الرسالة والمُرسِل.
في العام 2016 التحق بشبكة المسيرة الإخبارية — الذراع الإعلامي الأوسع لجماعة الحوثيين، والمموّلة ضمن محور إعلامي يمتد من بيروت إلى طهران.
كان حينها في أوج طاقته المهنية، وقد فتحت له مؤهلاته الأكاديمية وخبرته الميدانية أبوابًا مغلقة أمام كثيرين.
لكن المفارقة الكبرى أن دخوله المسيرة كان اختراقًا مهنيًا لمؤسسة مؤدلجة لا تقبل إلا المؤمنين بعقيدتها.
في وقتٍ كانت شروط العمل داخل المسيرة تتطلب الولاء العقائدي والالتزام الطقسي، وجد الشدادي نفسه في بيئة تحاول تشكيل وعي العاملين قسرًا، عبر ما وصفه بـ “دورات طائفية” تُدرَّس فيها “ملازم حسين بدر الدين الحوثي” المؤسسة للفكر السياسي للجماعة.
غير أن الشدادي، بروح الصحفي الباحث عن الحقيقة لا عن الاصطفاف، كان يحضر تلك الجلسات بعقلٍ نقديٍ باردٍ، يراقب من الداخل كيف تُبنى الأيديولوجيا وكيف تُصاغ الرسائل لتخدم مشروعًا سياسياً لا دينيًا.
ورغم ذلك، لم يكن في موقع الرفض العدائي، بل في موقع الاستيعاب التحليلي: يصلي بطريقتهم، يحاورهم بلغتهم، لكنه يحتفظ داخل نفسه باستقلالٍ فكريٍ لا يُشترى.
لقد كان يدرك أن الصدام المباشر مع منظومة مغلقة يعني الإقصاء الفوري، فاختار أن يمارس “الذكاء المهني” — أن يعمل من الداخل دون أن يتحول إلى أداة.
في ذروة الحرب، خاطر الشدادي بحياته لتوثيق جرائم الغارات السعودية والإماراتية على المدنيين في صعدة ومران ورازح، ووقف أمام مشاهد مروعة لأشلاء النساء والأطفال.
كان يدرك أنه يغامر، لكنه كان يرى أن “الإنسان المدني” هو الخبر، لا الشعارات.
ومع كل تقرير إنساني أنجزه بعدسته، كان يرسخ قناعته بأن الصحافة الحقيقية هي التي تنحاز للإنسان لا للجهة.
لكن استقلاله الفكري لم يمر دون ثمن.
ففي الوقت الذي كان يكتب فيه على صفحته في “فيسبوك” منشورات تنتقد فكرة “الحق الإلهي في الحكم” وترفض التمييز بين “السادة واليمانيين”، كانت تلك المنشورات تُقرأ في أروقة المسيرة كتهديد أيديولوجي داخلي.
بدأ التضييق المالي، ثم الإداري، حتى وصل الأمر إلى تقليص صلاحياته ومحاولة دفعه للمشاركة في المعارك كمقاتلٍ لا كصحفي.
عندها قرر الهروب من صنعاء إلى مناطق سيطرة الحكومة الشرعية.
لكن المفارقة المؤلمة أن الهروب من سلطةٍ فكرية لم يكن خلاصًا من القيد، بل انتقالًا إلى قيدٍ آخر.
فقد وُوجه في مناطق “الشرعية” بالريبة والتخوين بسبب تاريخه المهني السابق، واتُهم بالحوثية رغم أنه ضحيتها الأولى.
سُجن في زنزانة انفرادية لأربعة أشهر دون تهمة، وتعرض للتعذيب الجسدي والنفسي، في واحدة من أقسى المفارقات في المشهد اليمني:
أن يكون الصحفي المستقل خائنًا في نظر الجميع لأنه لا يرفع شعار أحد.
منذ خروجه في العام 2020، يعيش الشدادي عزلةً شبه اختيارية، يراقب من بعيد انهيار المنظومة الإعلامية اليمنية وتحولها إلى أدوات صراع لا إلى أدوات وعي.
يقول في شهادته: “الإعلام في اليمن اليوم لا يعبّر عن الناس بل عن الرعاة؛ كل وسيلة تتبع ممولها لا جمهورها، وكل صحفي صار مضطرًا لأن يختار ولاءه قبل أن يختار موضوعه.”
تجربة الشدادي تكشف بوضوح كيف فقد الإعلام اليمني جوهر وظيفته الاتصالية.
فبدل أن يكون مساحةً للتنوير، تحوّل إلى ميدان تعبئة وتجنيد.
الاصطفاف السياسي والمذهبي دمّر أخلاقيات المهنة، حتى صار الصحفي النزيه عبئًا على الجميع.
وفي ظل اقتصاد الحرب، أصبحت المؤسسات الإعلامية تابعة بالكامل لمراكز النفوذ — سواء كانت سياسية، دينية، أو خارجية — مما جعل الخطاب الإعلامي اليمني يعيش حالة “التحزّب المعولم”.
إن شهادة الشدادي هنا ليست مجرد قصة شخصية، بل توثيق لمرحلة تاريخية تماهى فيها الإعلام مع السلطة وفقد فيها المواطن صوته الحقيقي.
فحين يُجبر الصحفي على الصلاة بطريقة محددة، أو على الصمت أمام فكرٍ مفروض، أو على المبايعة لأحد الأطراف مقابل أجر، فإننا لا نتحدث عن مهنة، بل عن منظومة دعائية تبتلع المهنة وتقتل المعنى.
قصة حسين الشدادي هي مرآة لضميرٍ مهنيٍ نجا من التلوّث رغم أن كل الظروف كانت تدفعه نحو التورط.
هي شهادة على أن الصحافة في اليمن لم تمت، لكنها مخطوفة، وأن بين الركام لا يزال هناك من يكتب للحقيقة لا للعقيدة.
في زمنٍ صار فيه الحياد تهمة، يمثل الشدادي نموذجًا نادرًا للصحفي الذي لم يختر الاصطفاف، بل اختار الإنسانية معيارًا والمهنية سلاحًا.
وإذا كان الإعلام اليمني في زمن الحرب قد فقد توازنه، فإن شهادات كهذه تبقي ميزان الضمير قائمًا، ولو على حافة الصمت.

