صدى الواقع اليمني – تحليل: حسين الشدادي
في سياق الجدل الإعلامي المتصاعد حول المشهد اليمني، نُشر مؤخرًا في موقع صحيفة “الأمناء” مادة صحفية بعنوان:
“تحقيق استقصائي: حزب الإصلاح وجهازه الأمني السري في تعز… السيطرة، القمع، الاغتيالات، والإثراء في زمن الحرب”.
ورغم العنوان اللافت الذي يوحي بطابع استقصائي مهني، إلا أن القراءة المتأنية للمادة تكشف أنها لا تنتمي إلى قالب التحقيق الصحفي الاستقصائي المهني،بل تندرج ضمن سياق الدعاية السياسية الموجَّهة التي توظّف أدوات الصحافة لخدمة أهداف اتصالية ذات طابع تعبوي،بعيدًا عن روح الصحافة المهنية التنويرية.
غياب المنهجية الاستقصائية
التحقيق الاستقصائي، كما هو معروف في أدبيات الإعلام، يقوم على منهجية علمية واضحة تشمل:
صياغة فرضية بحثية تُختبر بالأدلة.
التوثيق المباشر للمعلومات والمصادر.
عرض وجهات النظر كافة، ولا سيما رأي الطرف المعني.
الإشارة إلى أدوات وأساليب جمع المعلومات.
أما المادة المنشورة، فعلى الرغم من استخدام أسلوب التقسيم والتحليل، إلا أنها خالية من التوثيق المهني والمنهجية الصحفية، ولا تتضمن مصادر محددة أو بيانات رسمية يمكن الرجوع إليها، كما غابت عنها المقابلات الميدانية أو الإفادات المباشرة من الجهات ذات الصلة،
ما يفقدها أهم مقومات التحقيق الاستقصائي المهني القائم على التحقق الميداني والتوثيق المتقاطع.
خطاب اتهامي لا تحقيقي
جاءت المادة بلغة اتهامية تقريرية مليئة بالأحكام القطعية والأوصاف القيمية، مثل: السيطرة، القمع، الاغتيالات، الإثراء، دون إسناد مهني واضح أو تحقق من صحة المعلومات عبر أكثر من مصدر مستقل.
كما خلت من الرأي المقابل أو حق الرد، وهو أحد ركائز العدالة الصحفية والتوازن المهني في أي عمل صحفي رصين.
هذا النمط من الكتابة لا ينتمي إلى الصحافة التفسيرية أو الاستقصائية، بل أقرب إلى ما يُعرف في علم الاتصال بـ خطاب الإقناع السلبي (Negative Persuasion)،
الذي يسعى إلى تشكيل قناعة مسبقة لدى القارئ، لا إلى تمكينه من الفهم النقدي عبر معطيات موثقة ومتوازنة.
البعد الدعائي في المعالجة الإعلامية
اعتمد النص على ما يُعرف في دراسات الاتصال السياسي بـ إطار “التهديد الداخلي” (Internal Enemy Frame)،
وهو أسلوب يُستخدم عادة في الحملات الدعائية لتصوير فاعل سياسي أو اجتماعي باعتباره خطرًا على المجتمع والدولة،
بهدف نزع الشرعية عنه وإضعاف صورته الذهنية أمام الجمهور.
كما أن تكرار المفردات ذات الحمولة السلبية، والاعتماد على مصادر خاصة مجهولة،
والربط بين أحداث متباعدة زمنيًا دون أدلة ملموسة،
كلها مؤشرات على أن الغاية الاتصالية للنص ليست التنوير أو الإعلام،
بل التعبئة السياسية الموجهة في إطار ما يُعرف بـ حملات الاتصال الموجَّه (Targeted Communication Campaigns).
الدافع الاتصالي لا المهني
من خلال بنيته السردية ولغته الاتهامية، يتضح أن المادة لا تمثل منتجًا صحفيًا تنويريًا،
بل أداة ضمن منظومة الإعلام الموجَّه (Directed Media)،
الذي يهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية عبر التأثير على الرأي العام،وليس إلى ترسيخ المعرفة والمساءلة وفق قيم الصحافة المهنية.
خلاصة مهنية
انطلاقًا من دراستي الأكاديمية وخبرتي العملية في العمل الصحفي ومجال الصحافة الاستقصائية،يمكنني التأكيد أن المادة المنشورة في “الأمناء” ليست تحقيقًا استقصائيًا ولا تقريرًا مهنيًا، بل عمل دعائي مضاد يوظّف القالب الصحفي لأهداف اتصالية سياسية.
فالتحقيق الاستقصائي الحقيقي يبحث عن الحقيقة المتوازنة، ويخضع لمعايير التحقق، التوثيق، التعددية، والحياد، بينما النص المشار إليه ينتمي إلى الخطاب التعبوي الموجه الذي يعتمد على التحريض، الانتقائية، والإيحاء.
الصحافة الحقيقية مسؤولية، ومهمتها التحقق لا التحريض، والتنوير لا التشهير.
وفي زمن الاستقطاب السياسي والاصطفاف الإعلامي،
تزداد الحاجة إلى الصحفي المحترف الذي يلتزم بالمنهجية العلمية والمصداقية، لا إلى من يوظّف أدوات المهنة لخدمة أجندات مسبقة أو صراعات حزبية.

