صدى الواقع اليمني – تقرير: حسين الشدادي
في ظل مشهد اقتصادي قاتم يعيشه اليمن منذ سنوات، تعمّق الأزمة المصرفية الأخيرة المرتبطة ببنك الكريمي من جراح الاقتصاد الوطني، وتكشف عمق الهوة بين سلطات الأمر الواقع في صنعاء والحكومة المعترف بها دوليًا في عدن، خصوصًا مع تصاعد الضغط على المؤسسات المالية في مناطق سيطرة جماعة الحوثي.
بنك الكريمي، الذي يُعد من أبرز المؤسسات المصرفية في البلاد والأكثر انتشارًا، بات اليوم في قلب أزمة مركبة، بعدما أعلن البنك المركزي في صنعاء – الخاضع لسيطرة الحوثيين – وقف التعامل معه، في خطوة يرى مراقبون أنها تمثل ضربة قوية للقطاع المصرفي المنهك، وتكشف بجلاء حجم التنازع المالي بين سلطتي صنعاء وعدن.
قرار مفاجئ… وتداعيات خطيرة
في 22 يونيو/حزيران 2025، أصدر البنك المركزي في صنعاء تعميمًا يلزم جميع المؤسسات المالية بإيقاف التعامل مع بنك الكريمي للتمويل الأصغر الإسلامي، ومنح مهلة لا تتجاوز 15 يومًا لتصفية أرصدتها. القرار الذي قوبل بموجة من القلق في الأوساط الاقتصادية، أثار تساؤلات كثيرة حول مصير أموال العملاء والشبكات المصرفية العاملة تحت مظلة البنك.
رغم تطمينات بنك الكريمي بأن القرار لا يمس ودائع العملاء الأفراد بل يخص فقط الصرافين وشبكات التحويل، إلا أن حجم التأثير المتوقع لا يمكن إنكاره، خصوصًا أن الكريمي يُعدّ شريانًا ماليًا رئيسيًا يربط اليمنيين في الداخل والخارج، ويؤمن خدمات مالية لشرائح واسعة من المواطنين والتجار والموظفين وحتى النازحين.
تصعيد في إطار صراع النفوذ المالي
الخطوة التي اتخذتها سلطات صنعاء تأتي في ظل تصاعد الحرب الإدارية الخفية بين مركزي صنعاء وعدن. حيث تضغط الحكومة الشرعية لنقل مقار البنوك من العاصمة اليمنية المحتلة إلى عدن، بينما تسعى سلطات الحوثيين لفرض الهيمنة الكاملة على العمليات المالية داخل مناطقهم.
ويقول خبراء اقتصاديون إن البنك المركزي في صنعاء يلوّح بالإجراءات العقابية ضد كل مؤسسة تتجاوب مع دعوات نقل المقار إلى عدن، في محاولة للسيطرة على القطاع المصرفي، الذي بات منذ سنوات ضحية لصراع سياسي اقتصادي متشابك، يضعه في حالة من الشلل والإرباك.
أزمة سيولة… وتهديدات وجودية للمصارف
تشهد البنوك العاملة في صنعاء منذ أكثر من عام أزمة سيولة خانقة، تفاقمت بفعل الانقسام المالي والقرارات المتضاربة من طرفي النزاع. وتكشف تقارير مصرفية عن وجود حالة من التوتر المتزايد بين البنك المركزي الحوثي والمصارف التجارية، خصوصًا بعد حزمة قرارات استهدفت عشرات شركات الصرافة، وقيّدت عمل شبكات التحويلات، وعلى رأسها “إكسبرس” التابعة للكريمي.
وتؤكد مصادر محلية أن قرارات وقف التحويلات تسببت في إرباك كبير لآلاف المواطنين، لا سيما في المناطق التي تعتمد بشكل أساسي على التحويلات الخارجية والمحلية كمصدر دخل شبه وحيد في ظل توقف الرواتب، وتدهور القدرة الشرائية.
انهيار العملة… كابوس متواصل
يتزامن الضغط على الكريمي مع انهيار متواصل في قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية. فقد تخطى الدولار حاجز الـ1700 ريال في عدن، بينما تستمر صنعاء بفرض سعر وهمي في السوق السوداء بقرابة 530 ريال للدولار، في محاولة لضبط الأسعار والسيطرة على تدفق الأموال.
هذا الانفصام المالي يعمّق الأزمة، حيث تعجز الشركات والمستوردون عن التعامل بشكل طبيعي بين المناطق، بينما يزداد الضغط على السوق النقدي، وسط مخاوف من العودة إلى “خيار الطباعة” لتغطية النفقات، ما سيقود إلى موجة تضخم كارثية، كما حدث في سنوات سابقة.
هل ينجو بنك الكريمي؟
رغم تأكيدات إدارة بنك الكريمي على استمرارية تقديم خدماته في كافة المحافظات، إلا أن الخطر الحقيقي يكمن في اتساع الحملة ضده، وتحويله إلى “ضحية سياسية” في صراع يتجاوز الإطار المصرفي البحت. وإذا ما استمر الضغط، فقد تفقد مئات الآلاف من الأسر اليمنية بوابتهم المالية الأساسية، مما ينذر بكارثة إنسانية واقتصادية.
وبينما يطالب رئيس جمعية البنوك اليمنية بصنعاء بضرورة الحفاظ على استقرار المؤسسات المصرفية، يرى محللون أن إنقاذ القطاع المالي يتطلب توافقًا وطنيًا، لا يبدو قريبًا في ظل تفاقم الحرب والانقسام، وتوظيف المال كأداة ضغط سياسي.
مستقبل قاتم لسوق مصرفي منقسم
مع استمرار الانقسام النقدي، وتعدد المرجعيات المالية، وتحويل البنوك إلى أدوات صراع، يبدو أن السوق المصرفي اليمني يتجه إلى مزيد من العزلة، مما يعيق جهود الاستقرار الاقتصادي، ويحول دون جذب الاستثمارات، ويعمق من معاناة المواطنين في مختلف المحافظات.
ويخلص مراقبون إلى أن استمرار استهداف البنوك، وفي مقدمتها بنك الكريمي، يهدد بانهيار ما تبقى من الثقة في النظام المالي، ويدفع بالناس نحو الاقتصاد الموازي (الصرافين غير المرخصين، والتحويلات اليدوية)، وهو ما يعمّق من فوضى السوق ويضعف من قدرة الدولة – أياً كانت الجهة المسيطرة – على إدارة السياسة النقدية.
بنك الكريمي أصبح عنوانًا لصراع أوسع على النفوذ المالي والسيادة المصرفية.
العملة تنهار، والمصارف تحتضر، والمواطن اليمني يدفع الثمن.
الحلول الجذرية تحتاج إلى توافق وطني شامل، وإلا فإن الانهيار الاقتصادي سيصبح واقعًا لا مفر منه.