صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي

في زمنٍ باتت فيه الصحافة مهنة من لا مهنة له، ومطية من لا ضمير له، يطلّ من ذاكرة هذا الوطن وجهٌ نادر الملامح، ناصع القسمات، اسمه محمد المساح.
وجهٌ يذكّرنا بأن القلم يمكن أن يكون وطناً، وأن الكلمة – إن خرجت من قلبٍ صادقٍ وعقلٍ نزيه – تزن في ميزان التاريخ أكثر من جيوشٍ تصرخ ولا تقول شيئاً.

لم يكن محمد المساح صحفياً ف حسب، بل كان ضميراً متجسّداً في هيئة إنسان.

عاش بين الناس كما يعيش القديس بين جموعٍ ضلّت طريقها إلى المعنى، لم يتكلّف دور البطولة، ولم يتقمّص زعامة الفكر، بل كان يكتب كما يتنفس، ويقول الحقيقة كما يشرب الماء: بعفويةٍ لا تعرف التملّق، وبجرأةٍ لا تعرف المداراة.

قلمٌ من سلالة الصدق





عرفته الأوساط الصحفية في اليمن رئيساً لتحرير صحيفة الثورة، حين كان هذا المنصب يعني شيئاً عظيماً، وحين كانت الكلمة المطبوعة تُقرأ باحترام لا بفضول.

كان في موقعٍ يُتيح له أن يغتني لو أراد، أن يستثمر القلم ليبني ثروة أو مجداً، لكنه اختار أن يبقى كما هو: طاهراً من غواية المال، نقياً من لزوجة المصالح.

عاش بالكفاف، لكنه ترك وراءه ثروةً لا تنضب من الاحترام.

كان كثيرون من زملائه يومها يعيشون البذخ الذي تمنحه المهنة حين تتحول إلى سوقٍ للسمسرة، بينما هو يعيش في بيته المتواضع، متصالحاً مع ذاته، مؤمناً أن الصحافة رسالةٌ لا صفقة، وضميرٌ لا وظيفة.

حين كانت الكلمة تربي الناس





في مقالاته التي كانت تنشر في عموده الشهير لحظة يا زمن، كان المساح يكتب كما لو أنه يكتب للعقل الجمعي للأمة.

كانت كلماته تُربّي الذوق العام، وتعيد ترتيب مفاهيم الناس عن الأخلاق والوطن والمواطنة، لم يكن الكاتب عنده متفرجاً ولا مهرجاً، بل مربياً وصانع وعي.

كان يرى أن الصحافة – في أصلها – سلطة الضمير لا سلطة المال، وأن الصحفي ليس ناقلاً للحدث فحسب، بل شاهداً على المعنى، حارساً للعقل، وناصحاً للوجدان.

الذين باعوا المهنة واشتروا الزيف





بعد سنواتٍ من رحيل المساح عن دائرة الضوء، تهاوت الصحافة اليمنية في دركٍ سحيق.

صارت المهنة مرتعاً لمن يبيع صمته بمال، أو يشتري حضوره بشتائم، صارت منصات الإعلام الجديد ساحات تصفية حسابات حزبية ومناطقية، وامتلأت الشاشات الذكية، وصفحات التواصل الإجتماعي بأقلامٍ تصرخ أكثر مما تفكر، وتُجيد الكذب أكثر مما تعرف من الحقيقة.

تراجع معنى الكلمة حتى غدت الصحافة اليمنية في زمن الحرب الطويلة مرآةً لعجز المرحلة، لا صوتاً للناس ولا ضميراً للوطن.

في هذا الزمن الرديء، يغدو استحضاري لتجربة محمد المساح نوعاً من المقاومة الأخلاقية،فهو ينتمي إلى جيلٍ كان الصحفي فيه يبدأ يومه بسؤال: ما الذي يمكنني أن أقدمه للناس اليوم؟

أما صحفيو اليوم، كلهم يبدأون صباحهم بسؤال: كم سيدفع لي الممول هذا اليوم؟

بين النقاء والابتذال.. مسافة سقوط وطن





تراجعت القيم، ومعها تراجعت المهنة، ف لم يعد في القاعات والمؤتمرات مَن يحاجج المسؤول بنبرة المساح الجهورية ولا بحجته الصلبة.

لم يعد في وسائل الإعلام من يقف في وجه الخطأ كما كان يقف المساح، بثقةٍ تستند إلى العلم لا إلى الولاء، و ب منطقٍ ينهض على المعرفة لا على الشعارات.

الذين خلفوه في المهنة لم يرثوا منه إلا المقاعد، أما الجوهر، أما النبل، أما تلك الهيبة التي تجعل الكلمة ميزاناً للحق، فقد ذهبت معه إلى مثواها الأخير.

لقد كانت الصحافة اليمنية في زمن المساح مدرسةً للأخلاق العامة، ثم تحولت في زمن الحرب إلى فوضى من الأصوات المتناحرة، صار الكذب مهارةً، والتزلف حيلةً، والخداع فناً يُكافأ عليه صاحبه بالترقيات والمناصب.

المساح الذي عاش كما أراد





كثيرون حاولوا أن يرسموا حياة المساح على طريقتهم بعد وفاته: كتبوا عنه بلغةٍ باكيةٍ تنزف شفقةً لا تليق به، وكأنهم يتحدثون عن رجلٍ مهزومٍ بالمرض أو منكسرٍ بالفقر، لكن الحقيقة أن محمد المساح عاش كما أراد.

اختار أن يترك صخب العاصمة وضجيج المناصب ليعود إلى قريته العزاعز في تعز، يعيش بين الحقول والمواشي، يرعى الأرض بيديه كما كان يرعى الحقيقة بقلمه.

باع أرضاً في صنعاء الراقية، واشترى بها بيتاً بسيطاً في قريته، لأن كرامته كانت عنده أغلى من أضواء المدينة.

لم يكن في نظره التراجع إلى الريف انسحاباً، بل كان عودةً إلى الأصل، إلى الهدوء، إلى صدق العلاقة بين الإنسان والأرض.

رمزية المساح في لحظة الانحدار





إن استدعاء تجربة محمد المساح اليوم ليس مجرد وفاءٍ لذكرى رجلٍ رحل، بل هو مراجعةٌ لمصير وطنٍ ضيّع بوصلته الأخلاقية.

لقد مثل المساح نموذج الصحفي النقي الذي ظلّ يؤمن أن السلطة زائلة، وأن الحقيقة خالدة.

بينما تحوّل كثيرون من بعده إلى أبواقٍ تردد ما يُملى عليها من غرف الممولين، فاقدين معنى الاستقلالية والكرامة المهنية.

وفي غيابه، يحق لنا أن نتساءل:
هل مات المساح وحده، أم مات معه آخر من تبقى من الضمير المهني في هذا البلد؟

عودة إلى المعنى





لقد رحل محمد المساح جسداً، لكنه ترك لنا سيرةً ينبغي أن تُدرّس لا أن تُنسى.

ترك لنا درساً في الكرامة، حين فضّل الكفاف على الثراء.
وترك لنا درساً في الصدق، حين جعل من عموده الصحفي منبراً للحق، لا منبراً للولاء.

وترك لنا درساً في الحرية، حين عاش حرّاً حتى في فقره، نزيهاً حتى في وحدته، كبيراً حتى في صمته.

إن استذكار أمثاله في زمن كهذا هو استعادةٌ لمفهوم الصحافة كقيمةٍ أخلاقية قبل أن تكون وسيلةً مادية.

ف الأوطان لا تُبنى بالمال وحده، بل تبنى بالصدق، وبأقلامٍ تعرف أن الكلمة مسؤولية لا مهنة.


حين يُذكر اسم محمد المساح، لا ينبغي أن نحزن عليه، بل على أنفسنا لأننا عجزنا عن أن نُبقي في مؤسساتنا الصحفية روح أمثاله.

كان المساح يمثّل الضمير الذي نحتاجه اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى؛ الضمير الذي لا يساوم، ولا يكتب إلا حين يكون للكلمة معنى.

رحل الرجل، وبقي السؤال الذي يطاردنا جميعاً:
هل سنظل نعيش زمن الابتذال الصحفي، أم سنحاول أن نعيد للمهنة جوهرها الذي مثّله المساح؟

رحم الله محمد المساح،
ذلك الذي عاش بسيطاً، ومات كبيراً،
وترك خلفه ما لا يموت:
الصدق حين يكتب نفسه في ذاكرة الوطن.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد