صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي

في عالم السياسة، حيث تتشابك المصالح مع المبادئ وتتشابك القرارات مع الواقع، تظهر اليمن كنموذج معقد لدراسة ديناميات القوة والتحالفات، ومرونة المواقف، واستراتيجية إدارة النزاعات، وقد مثل انشقاق عبد الجندي عن المؤتمر الشعبي العام وانضمامه لاحقًا إلى صفوف الحوثيين نقطة انطلاق لفهم أعمق للسلوك السياسي البراغماتي في بيئة شديدة التعقيد، إن خطوة الجندي، عند النظر إليها من منظور العلوم السياسية، لا تعد مجرد انتهازية كما قد يراها البعض من العامة، بل هي مثال واضح على ما يعرف بـ “jumping the ship”، أي انتقال السياسي من حزب أو جبهة خاسرة إلى الجبهة التي يراها أقوى وأكثر قدرة على تحقيق أهدافه الوطنية والسياسية، هذا الفعل، رغم ما يثيره من استغراب شعبي، يعكس فهمًا براغماتيًا للواقع اليمني حيث يرى الفاعل السياسي في الحوثيين الطرف الأقدر على إدارة شؤون البلاد وفق رؤيته لمصلحة اليمن، وهو في الوقت ذاته تعبير عن إعادة التموضع السياسي (Political Realignment) أو الانفصال المبدئي (Principled Defection) في سياق أوسع من القيم الفردية.

خلال الحرب بين الحوثيين والشرعية والتحالف العربي، برز دور القنوات الخلفية كآلية حيوية لإدارة النزاع والتفاوض بعيدًا عن أعين الإعلام والرأي العام. فهذه القنوات، المعروفة في العلاقات الدولية باسم Backchannel Communication، لم تكن مجرد وسيلة للتواصل الخفي، بل أداة استراتيجية تسمح للأطراف المتنازعة باستكشاف مواقف بعضهم البعض، وقياس فرص التفاهم، وتجريب احتمالات الحلول السياسية دون التزامات رسمية. وهنا يظهر مفهوم الدبلوماسية السرية (Secret Diplomacy)، التي تتجاوز مجرد الاتصال وتتيح إجراء مفاوضات أولية تهدف إلى اختبار جدية الطرف الآخر وتحضير الأرضية لعملية تفاوض لاحقة أكثر رسمية. كما ظهرت قنوات جس النبض (Exploratory Channels)، التي تسمح للطرفين باستطلاع مواقف بعضهما البعض، ومعرفة حدود التفاهم الممكنة دون الإعلان عن أي التزامات مسبقة. وقد اتضح أيضًا أن إدارة الصراع عبر الاتصالات غير الرسمية (Informal Conflict Management) كانت ممارسة ضرورية في اليمن، حيث لعب الوسطاء المحليون والدوليون دورًا في نقل الرسائل والتنسيق بين الأطراف، بما يخفف من حدة التوتر ويحول دون التصعيد العسكري المباشر.

عند قراءة التطورات التي تلت الحرب، نجد أن دخول وفود حوثية إلى المملكة العربية السعودية، بما في ذلك قيادات بارزة مثل علي الرزامي، لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان انعكاسًا لسياسة الواقعية السياسية (Political Realism) التي تحكم العلاقات الدولية. في هذا الإطار، الدول تتصرف وفق مصالحها الوطنية العليا، وليس وفق مواقف عاطفية أو أحقاد تاريخية، وقد تقتضي هذه المصالح التفاوض مع خصوم سابقين إذا كان ذلك يخدم أهدافها الاستراتيجية. زيارة هذه الوفود والتنسيق معها، بما في ذلك اللقاءات الرسمية وغير الرسمية، تُعد ممارسة دبلوماسية متقنة، تعكس فهمًا عميقًا لأساسيات السياسة الواقعية، حيث أن الهدف هو التخفيف من المخاطر، واستكشاف فرص التسوية، وتجنب الانزلاق نحو صراعات مفتوحة قد تكون مكلفة على كافة المستويات.

على نفس النحو، يمكن تفسير اللقاءات المتبادلة بين الوفد السعودي في صنعاء والقيادات الحوثية ضمن هذا الإطار البراغماتي، حيث تسمح مثل هذه اللقاءات بالتحقق من نوايا الأطراف، واستكشاف إمكانية التفاهم، وتقليل الاحتكاك العسكري، وفتح أبواب الحوار المباشر، بما ينسجم مع قاعدة السياسة الواقعية التي تقول إنه لا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون. هذا المبدأ التاريخي في السياسة، خاصة في الشرق الأوسط، يتيح للفواعل السياسيين التكيف مع تغير المعطيات، وإعادة تقييم تحالفاتهم، والسعي نحو مصالح وطنية أكبر، حتى إذا كان ذلك يعني التعامل مع خصوم كانوا بالأمس على قوائم المستهدفين الأمنيين.

الأحداث الأخيرة في المهرة، والتي شملت القبض على القيادي الحوثي الشيخ الزايدي أثناء توجهه إلى عمان للعلاج، وكذلك الاعتقال المؤقت لوزير خارجية الحوثيين هشام شرف في العاصمة المؤقتة عدن قبل إطلاق سراحهما، تكشف عن مدى تعقيد إدارة النزاع داخل اليمن. هذه الأحداث لم تكن سوى نتيجة خلل في التنسيق بين مختلف تشكيلات الشرعية متعددة الولاءات، حيث لم تكن جميع الأطراف على علم بالترتيبات المسبقة أو القنوات الخلفية التي تسمح بمرور هذه القيادات بأمان. من منظور علمي وسياسي، فإن مثل هذه التحركات الإنسانية والسياسية، بما في ذلك السفر للعلاج أو للقيام بمهمات غير عسكرية، تُعد ممارسة طبيعية ومسموحًا بها ضمن إطار الممرات الآمنة (Safe Passage)، المعترف بها دوليًا في النزاعات المسلحة، وتُستخدم لضمان حياة الأفراد، واستمرارية الوظائف الحيوية، وتقليل الاحتكاك العسكري أثناء الهدنة.

إن تفسير هذه التحركات يستند إلى مبادئ البراغماتية الواقعية (Pragmatic Realism)، التي ترى أن السياسة ليست مجرد حسابات أخلاقية أو شعورية، بل ميدان تتقاطع فيه المصالح مع الواقع والقدرة على إدارة النزاعات. التنسيق المسبق عبر وسطاء محليين أو دوليين يتيح تحقيق أهداف الطرفين دون صدام مباشر، بينما أي تحرك منفرد أو غير منسق يمكن أن يُفسر على أنه خرق للهدنة أو انتهاك للمبادئ الإنسانية. وقد أثبتت التجارب السابقة، سواء في أفغانستان أو فلسطين–إسرائيل، أن هذه الممارسات ليست استثناءً، بل جزء لا يتجزأ من إدارة النزاعات وتحقيق الاستقرار النسبي في البيئات المعقدة.

وباختصار، فإن قراءة الأحداث في اليمن منذ انشقاق عبد الجندي عن المؤتمر الشعبي العام، مرورًا بالقنوات الخلفية ودورها في إدارة الحرب، وصولاً إلى الزيارات المتبادلة بين السعودية والحوثيين، وأخيرًا الاعتقالات المؤقتة للقيادات الحوثية في المهرة وعدن، تتطلب فهماً علميًا ومعرفيًا للسلوك السياسي وللممارسات الدبلوماسية كل هذه التحركات والسياسات ليست انعكاسًا للانتهازية أو ضعف المبادئ، بل هي تعبير عن منطق البراغماتية السياسية، والواقعية الدبلوماسية، وقدرة الأطراف على التكيف مع المتغيرات المعقدة، وتحقيق الأمن والاستقرار، وحماية مصالح الشعب اليمني في بيئة صعبة تفرض على كل فاعل سياسي التفكير بعقلية استراتيجية بعيدة عن الانفعالات اللحظية.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد