صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي
في المشهد اليمني الراهن، لا يبدو الصراع الدائر مجرد انحراف تكتيكي داخل تحالفٍ عسكري، بل تحوّل إلى اختبارٍ صريح لمنطق إدارة التحالفات، وحدود المصالح، وأخلاقيات الشراكة الإقليمية في بيئة نزاع مفتوح. ما يجري اليوم يضع السعودية والإمارات أمام معادلة مربكة: تجنّب الصدام المباشر بين الدولتين بأي ثمن، مقابل القبول الضمني بحروب بالوكالة تُدار على الأرض اليمنية وبدمٍ يمني خالص.
من منظور إدارة المخاطر الاستراتيجية، يبدو أن الطرفين اختارا «أقل الخسائر السيادية» على حساب «أعلى الخسائر التشغيلية». فالصدام المباشر بين الرياض وأبوظبي يحمل كلفة سياسية واقتصادية وسمعة دولية مرتفعة، لا تنسجم مع حسابات العواصم الكبرى ولا مع مصالح الأسواق والطاقة والتحالفات الغربية. أما الصدام عبر الأدوات المحلية، فيبقى ـ من وجهة نظر باردة ـ قابلاً للاحتواء، وقابلاً للتدوير الإعلامي، وقابلاً للتفاوض لاحقاً على طاولات مغلقة.
غير أن هذا المنطق، وإن بدا عقلانياً على الورق، ينطوي على مفارقة أخلاقية وسياسية صارخة: لماذا تصبح سيادة الدول خطاً أحمر عندما يتعلق الأمر بعاصمتين إقليميتين، بينما تتحول السيادة اليمنية إلى مساحة اختبار مفتوحة؟ ولماذا يُدار الخلاف بين الحليفين بمنطق «ضبط النفس» حين يقترب من حدودهما، بينما يُدار بمنطق «الاستنزاف» حين يُسقط كلفته على الداخل اليمني؟
السعودية، بوصفها قائدة التحالف العربي، تمتلك ـ نظرياً ـ الأداة الأكثر حسماً: إعادة تعريف التحالف ذاته، أو تجميد عضوية أي طرف يخرج عن أهدافه المعلنة. من زاوية الحوكمة العسكرية، فإن إقصاء الإمارات من التحالف كان سيعني تلقائياً نزع الغطاء القانوني والسياسي عن معظم التشكيلات المسلحة التابعة لها، وإعادة ضبط قواعد الاشتباك وفق مرجعية واحدة. لكنه خيار عالي المخاطر، لا لأن الرياض عاجزة عنه، بل لأنه يفتح باباً لمواجهة سياسية مباشرة مع شريك إقليمي مؤثر، ويعيد خلط أوراق العلاقة الثنائية خارج اليمن.
هنا تبرز المفارقة الثانية: إذا كان هذا الخيار «خطيراً» على العلاقات السعودية–الإماراتية، فلماذا لا يُعد خطيراً عندما تكون ساحته اليمن؟ وإذا كان الحفاظ على التماسك الخليجي أولوية استراتيجية، فلماذا تُدار الخلافات عبر تصعيد ميداني يهدد بتفكيك ما تبقى من الدولة اليمنية ومؤسساتها؟
في المقابل، لا تُظهر الإمارات تردداً في توظيف أدواتها المحلية لتعظيم مكاسبها الجيوسياسية، خصوصاً في ملف الموانئ والسواحل وخطوط الملاحة. فهي تدير المشهد بعقلية استثمارية بحتة: أصول استراتيجية، نفوذ طويل الأمد، وتكلفة مباشرة منخفضة. أما الخسائر البشرية والسياسية داخل اليمن، فتبقى ـ في هذا المنطق ـ «تكلفة خارجية» لا تدخل في ميزانية القرار.
النتيجة أن اليمن تحوّل إلى مسرح تناقضات: تحالفٌ بلا قيادة موحّدة، وشرعيةٌ بلا سيادة فعلية، وقوى محلية تُدار بعقود غير مكتوبة مع عواصم إقليمية. وفي هذا المسرح، تُخاض المعارك بأقصى درجات العنف، بينما تُدار الخلافات الحقيقية بأقصى درجات اللياقة الدبلوماسية.
السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه ـ وبشيء من التهكم المشروع ـ هو: كيف يصبح الصدام المباشر بين دولتين شقيقتين «خطاً أحمر»، بينما يصبح الصدام بين وكلائهما «خياراً مقبولاً»؟ وكيف تُصان المصالح العليا للتحالف عندما تكون كلفتها تآكل الدولة التي قيل إن التحالف جاء لاستعادتها؟ ثم أي رسالة تُبعث إلى الداخل اليمني حين يرى أن دماءه أرخص من خلافٍ سياسي يمكن حله بمذكرة دبلوماسية أو اتصال هاتفي؟
إن استمرار هذا النهج لا يهدد فقط ما تبقى من الشرعية اليمنية، بل يضع التحالف ذاته أمام مأزق المصداقية. فإما شراكة قائمة على قواعد واضحة ومسؤولية متبادلة، أو صراع مصالح مُدار بالوكالة، تُدفع فواتيره من رصيد اليمن ومستقبله. وفي كلتا الحالتين، يبقى السؤال معلقاً: إلى متى يُدار الخلاف الإقليمي بعقل الدولة، وتُدار الحرب اليمنية بعقل الساحة المفتوحة؟

