صدى الواقع اليمني – تقرير: حسين الشدادي

منذ عام 2015 خاض اليمن حربًا شاملة أعلن لها مطلعًا أهدافًا رسمية واضحة: استعادة الحكومة الشرعية وإخراج الجماعات المسلحة من مؤسسات الدولة، منع استخدام أسلحة الدولة من قبل قوى غير شرعية، حماية الأمن الإقليمي ومنع التدخلات العابرة للحدود، استعادة الاستقرار الداخلي وتأمين وصول المساعدات الإنسانية، ومواجهة الإرهاب وقطع خطوطه. هذه الشعارات الأوراقية كانت وما تزال مرجعًا في بيانات التحالف والحكومة المعترف بها دوليًا.

لكن، وبعد أعوام من الحرب والاقتتال، لا بد من سؤال موضوعي وبنّاء: ماذا تحقق فعلاً من هذه الأهداف، ولمن كانت العوائد الحقيقية؟ وهل واقع المواطن اليمني اليوم انعكاس لهذه الشعارات أم ثمن مدفوع لغايات أخرى؟

في مقالي هذا لا أطلب تبريرًا لأي انتهاك ولا تناسياً للضحايا، بل أضع وقائع وتجربة مهنية أمام القارئ لأدعو إلى قراءة جديدة قائمة على المصلحة العامة لا على خطاب التحشيد الأيديولوجي أو المحاور الإقليمية.

الأهداف الرسمية.. والنتيجة الواقعية



الأهداف المعلنة كانت واضحة ورنانة، لكن الواقع الميداني علّمني أن هناك «أهدافًا خفية» تساوقت مع مصالح إقليمية واستراتيجية، وهي أمور لا تُناقش عادة في بؤر الخطاب الرسمي. السعودية والإمارات، كشركاء إقليميين في التدخّل، جنتا فوائد استراتيجية من حالة الانقسام والضعف المؤسسي في اليمن: تحكّم بالمنافذ الساحلية، مصالح لوجستية وتجارية، ومواقع نفوذ تحقق مصالح جيوستراتيجية أبعد من مجرد «عودة الشرعية» كما صيغت. هذا ليس تكهنًا بل قراءة استنتاجية من واقع ما رصدته ورأيت من آثار السياسات خلال سنوات الحرب.

المحصلة العملية: إن الحرب لم تُقهَر بها فكرةٌ أو مشروعٌ بل نتج عنها تفتت مؤسسي وتجزؤ في السيطرة، وأثرٌ بشري واقتصادي هائل دفع ثمنه المواطن – النساء، الأطفال، الشباب – بينما تبدو مكاسب بعض الفاعلين المحليين والإقليميين أعمق مما أعلنوه.

خطاب التعبئة: الدين، التاريخ، والسياسة كأدوات تحشيدية



في خطاب التوجيه المعنوي لدى أحد طرفي الشرعية، استُخدمت طروحات دينية وتاريخية لتأطير الحرب كصراع عقائدي: اتهامات متكررة للآخر بأنه «يدين» أو «يستهين بالصحابة» أو أنه يريد فرض «الحق الإلهي في الحكم». هذا الأسلوب يهدف لتأجيج الغضب الديني والهوية.

من زاوية مبدئيّة: ما الذي يجعلني – كمواطن عادي – مُهدَّدًا وجوديًا لأن يُقال إن جهات تدعو إلى تفسير تاريخي/عقائدي معين؟ هل يبرر ذلك سفك الدماء وتشريد الملايين؟ التاريخ الإسلامي المشحون بصراعات سياسية تعود لقرون مضت لا يجعل من كل جدال علمي أو انعكاس تاريخي سببًا لقتل الناس أو تدمير بلد.

وبالصدق نفسه: التهمة بأن الحوثيين «يسبّون الصحابة» هي اختزال مبالغ فيه وغير دقيق عندما تُقدَّم كحجة مركزية لشن حرب دموية. أما مسألة «الحق الإلهي في الحكم» فهي اتهام ثقيل بطبعاته اللاهوتية والسياسية، لكنه في الممارسة لا يقنعني كسبب كافٍ لرفع السلاح وإزهاق الأرواح، خصوصًا في ظل واقع تاريخي صعب يجعل مداخل الوصول إلى السلطة في بلادنا أمرًا استثنائيًا حتى في فترة ما قبل 2011.

التناقض بين الواقع في مناطق النزاع: صنعاء مقابل تعز (وأمثالها)



التجربة العملية على الأرض تقول شيئًا آخر: مناطق سيطرة الحوثيين أظهرت مؤسسات أمنية وقضائية وأداءً انتظاميًا في مستويات معيّنة، رغم الأوضاع الاقتصادية والحصار. في المقابل، مناطق الشرعية – لا سياسيا فحسب بل أمنياً وإدارياً – تعيش فوضى منظّمة؛ مؤسسات «مزيفة» أو «نسخ مشوَّهة» من الدولة، وتداخل ولاءات عائلية وحزبية ومناطقية في التعيينات والإدارات.

كشاهد وممارس، أقول بصراحة: لم أحصل على فرصتي المهنية في دوائر الشرعية رغم مؤهلاتي وتجربتي المهنية، بينما عملت سابقًا في إعلام صنعاء ولم أُطرد، بل خرجت طوعيًا. هذا لا ينفي وجود أخطاء أو تجاوزات لدى الطرف الآخر، لكنه يؤكد أن خطاب التحشيد لدى طرفي النزاع يتغاضى عن مشكلات داخلية في بيئتنا هويةً ومؤسسات.

ما الذي التُفت عليه؟ وما المطلوب الآن؟



السؤال المركزي الآن: لماذا استمر القتال عشرة أعوام إذا كان الهدف المعلن هو «إعادة الشرعية»؟ لماذا لم تُترجم الشعارات إلى مؤسسات متينة ومجتمع مستقر؟ الجواب بدا لي أنه مرتبط بزوايا مصالح محلية وإقليمية، وبقابلية خطاب التعبئة للاستمرار لأنه يخدم منافع فصائل ودوائر لا ترغب في تغيير واقع النفوذ.

أرى أن ما يلزم الآن هو إعادة تعريف الصراع: ليس كمشادة عقائدية أو حرب تحت راية استرداد رمزية، بل كمناقشة جادة تُقاس فيها التكلفة والجدوى والمصلحة العامة. وإذا كان واقع اليوم أن إدارة الشأن المدني والأمني في مناطق خصبة للحوثيين أظهرت قدرة أعلى على الضبط المجتمعي والأمن، فعلينا أن نفكر ببراغماتية: أي بدائل عملية تضمن أمن المواطن وكرامته واستئناف دولة قانون؟

هذا لا يعني تبنّي أي مشروع بالقوة، بل يعني فتح مساحة للوصول إلى حلول سلمية واقتصادية وسياسية تُنهي الانقسام وتعيد بناء الدولة. دعوة كهذه ليست خيانة ولا إكراهًا على الولاء، بل أصلاً من أصول الصحافة المهنية: تقديم قراءة موضوعية تُصوِّب الخطاب العام على مصلحة المواطن لا على مصالح تجزئة النفوذ.

دعوة لقراءة عقلانية ومسؤولة



أرفض أن تظل صياغة الحرب مجرد خطاب تعبوي يعلو فوق صوت الضحية والواقع المعيشي. بعد أكثر من عقد على الدم والدمار، أطالب بما يلي: نقد شجاع للممارسات والنتائج، مقاربة معيارية تقيس الأهداف بالنواتج، ومطالبة بإعادة ترتيب أولويات الوطن – الأمن والسلم والتنمية – قبل أي شعارات تقود إلى مزيد من الدماء.

أنا، كصحفي مستقل، أكتب هذا النص من منطلق مهنية والتزام بالمصلحة العامة، لست بصدد الدفاع عن نظام أو فريق، بل أمثّل نداءً لإنهاء الحرب بآليات تحفظ حياة الناس وكرامتهم، وتعيد لليمن حكمة القرار الوطني.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد