صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي
كثيرون أولئك الذين يتسربون من مطارات اليمن وجوازاتها الرسمية، متوشحين بعمائم الطهارة الزائفة، ومختومين بأختام “الولاية”، يعبرون الأجواء، وينزلون في عواصم، ويمرون من بين أنظمة جوازات ومراقبة، كأنما تحفّهم الملائكة، لا لجلال قلوبهم، بل لسطوة الاسم المنحدر من سلالة يدّعون لها قدسية لا سند لها سوى خرافة التاريخ وسُبات الضمير.
القيادات الهاشمية المتسترة بعباءة الدين، لم تُمس، لا في الداخل ولا في المنافي. تسافر، تتنقّل، تتحرك بين العواصم والدول، بينما يُقبض على “الكهنوتي القبيلي” متى ما أبدى ولاءً أو حماسة لمشروع الحوثي، حتى وإن كان بالأمس مقاتلًا في صف الجمهورية. المفارقة ليست في الفعل ذاته، بل في معايير الانتقاء المزدوجة التي تفرّق بين الكهنوتي المنتمي إلى العرق المقدّس، وبين القبيلي المأخوذ بجريمة الولاء وحدها، لا النسب.
في هذا المشهد العبثي، لا ينكر أحدٌ على الشرعية سعيها نحو ضبط الأمن وكبح جماح التمدد الحوثي. لكن ماذا لو أن تلك الشرعية ذاتها تغض الطرف عن “الكهنوتي ذي الجواز الأخضر”؟ ماذا لو أنها تُفرغ شجاعتها في القبض على زيد من الناس لأنه قبلي، وتترفق بـ”سيد” آخر لأنه من “آل البيت”؟ هل هذه معركة وطنية ضد السلالة، أم مجرد صراع على السلطة لا أكثر؟
لو كان الزايدي المقبوض عليه في المهرة هاشميًّا، لما امتدت إليه يد، لا من الأمن ولا من السياسة. هذه حقيقة مريرة، لا نقولها لتبرئة الرجل، بل لنُظهر معايير الشرعية المهترئة، التي لا تعرف عدلًا في المواقف، ولا تملك بوصلة وطنية موحدة في التعامل مع الخطر الحوثي.
إن المعضلة ليست في الزايدي كاسم، بل في أن العقل اليمني العام، حتى المعارض للحوثيين، بات يُسلِّم لاوعيًا أن الهاشمي لا يُمس، وأنه مهما ارتكب، فإن نسبه يمنحه غطاءً يحرم الآخرين منه، وإن وقعوا في الذنب ذاته.
أخطر من ذلك، أن الكهنوت لم يعد محصورًا في صعدة ولا في صنعاء، بل إن مجاميع مسلحة موالية له تتغول اليوم في المهرة، جهارًا نهارًا، دونما رادع أو حساب. ترفع راياتها وتُجهر بولائها للحوثي، وتُعلن تبعيتها للمشروع الإيراني بلا وجل، بينما الشرعية تُناور، وتتردد، وتخشى الاصطدام بمن يُفترض أن يكونوا أولى بالمواجهة، إن كانت هناك معركة حقيقية ضد الإمامة.
كل تراجع اليوم في ملف الزايدي أو سواه، كل تفهّم أو تنازل، طعنة نجلاء في خاصرة الشرعية. فالتراجع لا يُفهَم في لحظات الحرب إلا كضعف، ولا يُقرأ إلا كإقرار بسردية العدو. إنه تمكين جديد للكهنوت، ولو من باب “المجاملات الأمنية”، أو التوازنات المناطقية.
الواجب هو مكافحة الكهنوت في كل مكان، وبدون انتقائية، وبدون تساهل مع النطفة المزعومة ولا العمامة المدعاة.
إن كنتم ستلاحقون القبيلي المتحوث، فالعدل يقتضي أن تلاحقوا الهاشمي المتحوث أولًا.
وإن لم تقدروا على الهاشمي، فدعوا القبيلي وشأنه، وكونوا على الأقل متسقين مع ضعفكم.
غير أن أصل العلة، ولب المصيبة، لا يتوقف عند الكهنوت فقط، بل في الحاضنة التي احتضنته، والتي ما تزال تحتضنه: القبيلة.
القبيلة في اليمن، ومنذ ما قبل الحرب، فوق الدولة، وفوق القانون، وفوق الدين نفسه إن تعارض مع مصالحها. هي التي أسست لثقافة “شيخ فوق الجمهورية”، و”عُرف فوق الدستور”، وهي التي سلمت رقاب الناس إلى الكهنوت عندما طاوعته، إما تحت ذريعة “آل البيت أولى”، أو بحجة الاصطفاف المناطقي، أو لحسابات السلطة.
إن جماعة الحوثي لم تقوَ بسلاح إيران فقط، بل بصلابة القبيلة المقاتلة خلفها، وبصمت القبائل الأخرى التي سكتت عندما اجتاح مشروع “الولاية” البلاد.
وإذا كانت هناك شرعية تريد استعادة الجمهورية، فعليها أن تفكك أولًا شبكة الولاءات القبلية التي تخنق مشروع الدولة من الداخل. عليها أن تبني جيشًا على أساس وطني صرف، بلا محاصصة قبَلية، ولا ولاءات مناطقية، ولا نُخب متورمة بالشعار وضيقة بالوطن.
عليها أن تُنهي فكرة “شيخ اللواء”، و”شيخ المديرية”، و”شيخ الشرعية”، تمامًا كما تُحارب “سيد الجماعة”، و”سيد الولاية”، و”سيد السلالة”.
فلا يمكن أن تقوم جمهورية، والقبيلة هي الدولة. ولا يمكن أن تنتصر الشرعية، وهي تهادن الكهنوت تارة، وتنافق القبيلة تارة أخرى. ولا يمكن أن نُهزم الإمامة، إلا إذا كسرنا قيود الطائفة والقبيلة، معًا.
لا أحد يستحق الحصانة لأن نسبه يعود إلى عليّ، ولا أحد يستحق السجن لأنه من أقيال اليمن.
هذه معركة من أجل المستقبل، لا تُربَح إلا إذا وُضع كل متحوث في خانة العدو، أكان من وائلة أو من هاشم، من مأرب أو من صنعاء، من المهرة أو من صعدة.
فالعدو هو كل من يريد إسقاط الدولة، لا من أي نطفة خرج، ولا من أي قبيلة جاء.