صدى الواقع اليمني – كتب : عبدالاله الشرجبي



كلما اعتقدنا أن المدينة التقطت أنفاسها، أطلّت علينا أزمة جديدة، كأنّ الأوجاع في هذه البقعة المنكوبة تتناوب علينا كحرّاس جهنم، لا يتركون للناس فرصة للخروج من حريق إلا وألقوا بهم في آخر.

تعز، المدينة التي أنجبت الفكر والثقافة، صارت اليوم ممرًا للخذلان، وساحةً مفتوحة لعبثٍ لا ينتهي. لم تُهزم تعز من الخارج، بل من أولئك الذين يدّعون الوصاية عليها، وهم لا يملكون من أدوات الحكم سوى ضجيج السلاح، وتغوّل الفوضى، وتكرار الشعارات البالية.

كل أزمة تلد أخرى. الأسعار ترتفع، الخدمات تنهار، الأمن يذوب كأن لم يكن. ثم تأتي موجة الإيجارات، كمن يسكب الملح على جراح الناس. منازل تغلق أبوابها على أصحابها الذين عجزوا عن دفع ما يطلبه أصحاب العقارات، في ظل غياب تام لأي تدخل من الدولة، أو حتى من ظلّها الباهت في تعز. كثير من العائلات تُركت تواجه مصيرها بين الطرد أو التشرد أو الاستسلام لذلّ لا حدود له. وكأنّ الغاية الخفية من كل هذا ليست فقط إفقار المدينة، بل إفراغها ممن تبقى فيها من الكرامة.

الدم أيضًا صار لغتنا اليومية. قضايا القتل تتكرر بلا رادع، بلا محاكمة، بلا قضاء يحمي الضعيف من سطوة القوي. تُقتل الأرواح، ثم تُقتل الحقيقة بعدها، وتُحرق العدالة على قارعة الطريق. وليس هناك من يعيد ترتيب المشهد، أو حتى من يخجل من الخراب.؟
السياسة ليست ارتداء البزات وتكديس المكاتب بالموظفين، وليست إطلاق التصريحات والخطب الفارغة، السياسة مسؤولية، رؤية، أخلاق. أما ما يحدث في تعز فليس سياسة، بل سلسلة طويلة من الخيانات اليومية للمدينة ولأهلها.

تعز لا تُدار اليوم، بل تُستنزف. لا تُنقذ، بل تُسلَّم قطعة قطعة للعابثين، والمهووسين بجمع المال، وتجار الدم، والمرتهنين للخارج.

ما يحدث هو عملية إعدام بطيئة للمدينة. إعدام للثقافة، للكرامة، للإنسان. وأمام هذا الخراب، لا يمكننا الصمت. فالصمت جريمة أخرى، تمامًا كما أن التغاضي عن القتلة هو خيانة للعدالة.

إن كنا نريد لليمن أن تُنهض يومًا، فلتكن تعز أول اختبار حقيقي. إن لم نستطع أن نستعيد مدينةً واحدة من بين براثن الانهيار، فكيف سندّعي أننا قادرون على استعادة وطن؟

تعز ليست مجرد جغرافيا، إنها مقياس لنبض اليمن، فإن مات النبض هنا، لن يكتب لهذا الجسد المتهالك أن يعيش.
ووسط هذا الانهيار المتعدد الأوجه، تطلّ أزمة مياه الشرب كقمة جبل الجليد الذي يخفي تحته ما هو أفظع. لم يعد الحصول على خمسة لترات من الماء النظيف حدثًا عاديًا، بل صار “فرحة غامرة” كما يصفها البسطاء، وكأننا في صحراء قاحلة لا في مدينة كانت تُعرف يوماً بأنها منبع الحياة والثقافة.

الناس يصطفون بالساعات، يحملون قواريرهم وأحلامهم المثقوبة، بينما تُدار هذه الأزمات من خلف الستار بذكاء شيطاني. تتكرّر الأزمة، مرة بسبب أعطال، ومرة بحجج واهية، لكن النتيجة واحدة: مزيد من البؤس، ومزيد من الجيوب التي تنتفخ، ومزيد من الأرواح التي تذوي عطشًا في انتظار قطرة عدل.

لم تعد أزمات الغاز، والبترول، والمياه مجرد أخطاء أو تقصير، بل أصبحت أدوات ممنهجة لترويض المدينة، ودفع سكانها إلى حافة اليأس. المواطن الذي يئنّ تحت وطأة الإيجارات، ويخشى على أطفاله من رصاصة طائشة، أصبح الآن يخاف من عطشٍ لا دواء له، ولا مساءلة لمن تسبب به.

من المستفيد من كل هذا الخراب؟ سؤال لا يحتاج إلى كثير من الذكاء بقدر ما يحتاج إلى قليل من الشجاعة. فكل أزمة تفتح سوقًا جديدة للمستغلين، وتغلق بابًا آخر في وجه المواطن، حتى ضاقت عليه الحياة من كل الجهات، وتحول البؤس إلى جزء من يومياته، كأنه قدرٌ مكتوب لا فكاك منه.

إن تعز، التي كانت منارة في العقل اليمني، تُختزل اليوم في مشهد لطفل يلهث خلف قارورة ماء، أو أمٍّ تبكي أمام صنبور جاف، أو شيخٍ يحدّق في برميل فارغ كمن يقرأ كتاب النهاية.

في وطنٍ تُسرق فيه حتى المياه، لا غرابة أن يُذبح فيه الإنسان كل يوم، لا بسيف، بل بالإهمال والتواطؤ والجشع .
وحده المواطن هو الذي يدفع الثمن دائمًا…
لا يجلس على طاولة القرار، لكنه يُسحق تحتها.
يستيقظ كل صباح ليطارد شربة ماء، وقبضة غاز، وخبزة تُبقي أطفاله على قيد الوجع.
يعيش كأنفاسٍ مؤجلة، يخشى الغد أكثر مما يكره الأمس، محاصرًا بالفقر، ومهددًا بالرصاص، ومنهوبًا حتى من حقه في الحياة.

صار الوطن بالنسبة له طابورًا لا ينتهي، وجدارًا مائلًا على رأسه، وسماءً لا تمطر إلا الخذلان.
وفي هذا الوطن الذي يبيع كرامته بالسياسة، ويشتري موته بالصمت، لم يعد للإنسان مكان…
بل مجرد رقمٍ في عدّاد العذاب، أو اسمٍ على لائحة المنسيين.

فهل يُعقل أن يعيش الناس في مدينتهم كغرباء، وفي بيوتهم كلاجئين، وفي وطنهم كضحايا دائمين؟
وإلى متى سيظل المواطن يكتب فصلاً جديدًا من المعاناة، فيما الطغاة يكتبون قصائد نصرهم على أنقاضه؟

🔗 رابط مختصر:

اترك رد