صدى الواقع اليمني – تقرير: حسين الشدادي
تشهد الساحة اليمنية تصعيداً حاداً في الخطاب السياسي والإعلامي لجماعة الحوثيين ضد المملكة العربية السعودية، بالتوازي مع تحركات دبلوماسية إقليمية ودولية تسعى لمنع الانهيار الكامل لجهود السلام الهشة.
هذا التوتر المتصاعد يضع مصير الهدنة غير الرسمية، التي صمدت لأكثر من عامين، على المحك، ويعكس تعقيدات المشهد اليمني-الإقليمي الذي يتأرجح بين خيار “اللاسلم واللاحرب” وخطر الانزلاق إلى مواجهة عسكرية واسعة ومكلفة.
القيادات السياسية والعسكرية والإعلامية التابعة لجماعة الحوثيين رفعت أخيراً سقف التهديدات باستئناف العمليات العسكرية ضد العمق السعودي، في خطوة تبدو وكأنها محاولة لإعادة تعريف قواعد الاشتباك وتوليد أوراق تفاوضية جديدة بعد تضاؤل الزخم العملياتي الذي أعقب اتفاق غزة.
التهديدات الحوثية: تحول في الأولويات أم تكتيك ضغط؟
جاءت التهديدات الحوثية الأخيرة عقب توقف عمليات “إسناد غزة” في أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت في القطاع، وتزامنت مع مرور أشهر قليلة على اتفاق “خفض التصعيد” بين الجماعة والإدارة الأميركية برعاية عُمانية. هذا التوقف النسبي للعمليات العسكرية، حسب المراقبين، وضع الجماعة التي “تعيش على الحروب” في وضع غير مريح، دافعاً إياها للبحث عن مبررات جديدة للتعبئة والضغط.
ويُلاحظ أن قناة “المسيرة” التابعة للحوثيين كثّفت من تغطيتها حول وقوع إصابات بين المدنيين في القرى الحدودية اليمنية نتيجة “الاستهدافات والقصف المدفعي السعودي المتواصل”، وهو ما يُعتبر اتهاماً مُبطناً للرياض بخرق التفاهمات القائمة.
مزاعم التجسس واتهامات التعاون مع “العدوان”
أحد أبرز مؤشرات التصعيد
النوعي في الخطاب الحوثي هو الزعم بإلقاء القبض على “شبكة تجسسية” تعمل لصالح غرف عمليات مشتركة بين الاستخبارات الأميركية والسعودية والموساد الإسرائيلي، وأن مقرها يقع في الأراضي السعودية. وقد أشادت وزارة الخارجية التابعة للجماعة بـ”الإنجاز الأمني”، مُشددة على ضرورة أن يراجع “النظام السعودي مواقفه وسياساته العدائية” والتعاطي بإيجابية مع مساعي السلام، بدلاً من “الاستمرار في إضمار الشر للشعب اليمني”.
العميد مجيب شمسان، القيادي العسكري في جماعة الحوثيين، يرى أن هذا التصعيد هو “توضيح للحقائق” التي غفل عنها النظام السعودي، مؤكداً أن الرياض لم تنفذ التزاماتها المتفق عليها منذ هدنة أبريل/نيسان 2022، بل سعت لفرض حالة “اللاسلم واللاحرب” بـ”إسناد أميركي”.
وبحسب شمسان، فإن الاتهامات الموجهة للسعودية تتسع لتشمل:
المشاركة في عمليات الإسناد: خلال عمليات “طوفان الأقصى”، تحرك الجانب السعودي “على كافة المسارات” للتأثير على العمليات اليمنية، بما في ذلك محاولات الاعتراض والإنذار المبكر.
الدعم اللوجستي للعدوان الأميركي: قيام السفن الحربية الأميركية وحاملات الطائرات في حملة “حارس الازدهار” بالتزود بالوقود والدعم اللوجستي وإعادة التذخير في الموانئ السعودية.
تدريب الخلايا التجسسية: المشاركة في تدريب وإشراف خلايا تجسسية لصالح “العدو الصهيوني”، ما يُعد “انتهاكاً صارخاً لمبادئ حسن الجوار ومشاركة بالعدوان على اليمن”، وأن نتائج هذه العمليات الاستخبارية ظهرت في جرائم ارتكبت بحق المدنيين والقطاع المدني، بما في ذلك اغتيال أعضاء في حكومة الجماعة بصنعاء.
ويؤكد شمسان أن رسائل صنعاء واضحة بأنها لن تقبل بوضع “اللاحرب واللاسلم أو وضعية خفض التصعيد”، وأن استمرار “العمليات العدوانية، والرصد الاستخباري، ودعم الخلايا” يستلزم “رداً يمنياً”، مُحذراً من أن الرد القادم سيكون “أكثر تأثيراً وأكثر تدميراً لمنشآت وقدرات وبنية السعودية التحتية”.
التحركات السعودية: ردع وتضييق هامش المناورة
على الجانب الآخر، تُعتبر المناورات العسكرية التي تجريها السعودية، والتي جمعت دولاً إقليمية مثل باكستان وموريتانيا، “رسالة سياسية وعسكرية واضحة مفادها الاستعراض والردع”، وفقاً للباحثين.
عاصم المجاهد، الباحث في الشؤون الأمنية والسياسية، يرى أن المناورات المشتركة في البحر الأحمر تهدف إلى:
تضييق هامش المناورة أمام الحوثيين.
منح الرياض خيارات تكتيكية أوسع في حال تطورت الأمور إلى اشتباك محدود في البحر الأحمر.
إيصال رسالة بأن السعودية “قادرة على المواجهة، وتأمين مصالحها في البحر الأحمر والممرات البحرية”.
ويرى المجاهد أن التحريض والهجوم الإعلامي يرفع من مستوى الخطاب ويزيد من احتمالية “الأخطاء في حسابات الطرفين”، إلا أنه يعتقد أن كلا الطرفين لا يرغبان في “سجال مفتوح” في الوقت الراهن. فالسعودية منشغلة بحسابات أمنية وسياسية داخلية وإقليمية، والحوثيون يوازنون بين طموح تصعيدي وضرورة البقاء الداخلي وتجنّب “انكشافات خطيرة قد تهدّد وجودهم”.
تكتيكات “الردع المتبادل” والمصالح الحوثية
يشير الباحثون إلى أن اللعب بـ”الوكالة” و”الردع المتبادل” عبر الضربات المحدودة والعمليات البحرية والطائرات المسيرة يخدم أهداف الطرفين دون الدخول في حرب تقليدية مفتوحة. كما أن الوساطات الإقليمية والدولية تظهر كلما تصاعدت الأوضاع، ما يقلل من احتمال تحول التهديد إلى حرب شاملة.
بالنسبة للحوثيين، فإن “التحريض والخطاب العسكري أداة تعبئة وجزء من هوية سياسية وجماهيرية”؛ حيث إن الجماعة ترى أن الحرب تمدها بـ”الشرعية كـ(حركة مقاومة)” وتُمكّنها من تعبئة الشارع. وبناءً عليه، تميل الجماعة إلى “فتح جبهات محدودة عندما تقرأ أن الكلفة على خصمها أقل من كلفتها الداخلية”، وهو تكتيك يهدف إلى “رفع سقف الضرر المقابل وتحقيق مكتسبات استراتيجية أو تفاوضية”، وليس بالضرورة رغبة في حرب شاملة.
الدبلوماسية: هل تنجح الوساطة العُمانية؟
في خضم هذا التصعيد، يبقى المسار الدبلوماسي هو حبل النجاة الوحيد. وقد قام المبعوث الأممي، هانس غروندبرغ، بزيارة إلى سلطنة عُمان، حيث أجرى مناقشات مع كبار المسؤولين العُمانيين وفريق التفاوض التابع للحوثيين، بالإضافة إلى نائب وزير الخارجية الإيراني، مجيد تخت روانجي، للبحث عن “سبل التوصل إلى تسوية سياسية تفاوضية من أجل إنهاء النزاع في اليمن”.
تحريك المفاوضات في عُمان، على الرغم من حدة الخطاب، يشير إلى أن قناة التواصل لم تنقطع بالكامل، وأن المجتمع الإقليمي والدولي لا يزال يراهن على الحل السياسي.
السيناريوهات المحتملة للمرحلة المقبلة
يلخص الباحث عاصم المجاهد المشهد المستقبلي بثلاثة سيناريوهات محتملة:
السيناريو الوصف الاحتمالية
1. التصعيد المحدود تبادل ضربات جوية وبحرية وطائرات مسيرة واستهدافات ليلية محدودة، مع استخدام أدوات الردع، دون عبور خطوط حمراء استراتيجية. الأكثر احتمالاً في المدى القريب، لاختبار الطرفين لبعضهما.
2. بقاء الوضع الراهن استمرار المواجهة الإعلامية وتبادل التهديدات، دون تحولها إلى فعل على الأرض. احتمال قائم، ويعكس التوازن الحالي في القوة.
3. الحرب الواسعة والمطولة عمليات مواجهة واسعة تتضمن حملة جوية تهدف إلى تغيير ميزان القوة على الأرض. قليل الاحتمال حالياً، نظراً لتكلفتها الشديدة واحتمال تورط أطراف إقليمية ودولية.
صوت المواطن: خيبة الأمل في “الشرعية” وتفضيل “الاستقرار الحوثي”
يتضمن التحليل بعداً بالغ الأهمية غالباً ما يُغفل في الروايات الرسمية: صوت المواطنين اليمنيين في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً (“الشرعية”).
هناك شريحة من المواطنين في هذه المناطق ترى أن امتناع الحوثي عن استئناف الحرب واستعادة المحافظات الخاضعة لسيطرة الشرعية هو “تخلّف عن الأهداف المعلنة” و”خيانة لسردية وطنيته”، خاصة وأن هذه المناطق تخضع لـ”سيادة ناقصة” من قبل الشرعية.
وهنا تبرز مفارقة مؤلمة: فبعض المواطنين في مناطق الشرعية “يؤمنون بحق بوطنية الحوثي ويتطلعون إلى سيطرته على مناطقهم”، اعتقاداً منهم بأن سيطرة طرف واحد ستحقق الاستقرار والأمان واستئناف الحياة.
يرى هؤلاء المواطنون أن اعتقاد الشرعية بتملكها الكامل للحاضنة الشعبية هو “وهم في حقيقة الأمر”، وأن سكوتهم هو بفعل “القهر وعواقب الإفصاح” عن مواقفهم الحقيقية. ويُفضلون “العيش تحت ظل الحوثي بفظاعته المبالغ في سردها” على العيش تحت حكم “كيانات سياسية وعسكرية متعددة الولاءات للخارج”، التي تحقق مكاسب شخصية كبيرة لروادها بينما يفتقر المواطن البسيط لأبسط مقومات الحياة.
ويؤكد هذا المنظور أن المواطن اليمني “لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس انتصارات الشرعية الوهمية وإنجازاتها المثيرة للسخرية”، بل يحتاج إلى “الخبز والماء والملابس والمسكن المتواضع في بيئة آمنة مستقرة”. وهي متطلبات “لم توفرها الشرعية بل جعلت نيلها أكثر صعوبة”.
بل إن هناك دليلاً صارخاً على هذا اليآس، حيث يرى هؤلاء أن أفراد الكيانات العسكرية للشرعية هم “مجرد يمنيين مطحونين يقدمون خدمات قتالية لأجل الحصول على المال”، وأن آلاف اليمنيين توجهوا للقتال نيابة عن الجيش السعودي ضد الحوثيين “لأجل المال”، وهو ما يثبت أن لا أحد “يؤمن بما يقال” من شعارات فضفاضة، وأن الشرعية تُنظر إليها كـ”فرصة عمل للكسب الشخصي”.
في هذا السياق القاتم، يخلص البعض إلى أن “الحوثي هو أفضل مساوئ المكونات السياسية والعسكرية لحكم اليمن كلها على كل مساوئه”، وأن المعيار هو “الجدوى والتكلفة والفائدة والوقت”، خاصة بعد فقدان “زهرة الشباب وذروة الحياة” في صراعات لا تحقق المصلحة العامة.
إضرابات التجار: أزمة اقتصادية تضاعف المعاناة
يزيد من تعقيد المشهد أزمة اقتصادية خانقة، تجلت مؤخراً في دعوات لإضراب التجار في المناطق الخاضعة لسيطرة الشرعية، وتحديداً في عدن.
بدأ الإضراب لتجار الملابس والأحذية في “باب السلام” وتوسع لاحقاً ليشمل ثمانية أنشطة أخرى، وفقاً لبيان النقابة العامة للتجار، وذلك بسبب الرفع المزدوج والمبالغ فيه للجمارك في كل من عدن وصنعاء، وكأن “الحكومات موفرة كل الإمكانيات والتسهيلات” للمواطنين والتجار.
كما تشير المعلومات إلى وجود أشكال غير رسمية من الجباية، مثل “جمارك العكيمي في صحراء الجوف” المفروضة على القاطرات، ما أجبر الشاحنات على عبور “طريق انتحارية” في الصحراء، ليتم فرض رسوم عليها (4000 ريال سعودي على كل قاطرة). هذه الجبايات غير المنظمة تُشير إلى وجود كيانات “دولة داخل الدولة” تستغل حالة الفوضى والصراع لتحقيق مكاسب مالية على حساب المواطن والتاجر، وتزيد من تكلفة السلع على المواطن اليمني المنهك.
المشهد اليمني يواجه نقطة انعطاف خطيرة؛ فالتهديدات الحوثية باستئناف الحرب هي في جوهرها محاولة لكسر حالة “اللاسلم واللاحرب” وإعادة تفعيل خيار القوة لتوليد مكاسب تفاوضية سريعة. هذه التهديدات تُقابل بحذر سعودي يعتمد على الردع العسكري وتضييق هامش المناورة، بالتوازي مع التشبث بالمسار الدبلوماسي في عُمان.
وفي العمق، يبقى المواطن اليمني هو الضحية الكبرى؛ فخيبة الأمل في الشرعية، والتفضيل الحزين لسيطرة طرف واحد على حكم الكيانات المتعددة وولاءاتها الخارجية، تعكس فشل كل الأطراف في تلبية أبسط متطلبات الحياة الكريمة. وبينما تنشغل القيادات بالصراع والتهديدات والمناورات، فإن المواطن يواجه الجبايات غير الرسمية والارتفاع المجنون للجمارك وأسعار السلع، في بلد فقد الكثير من وقته و”زهرة شبابه” في حرب لم تعد تخدم إلا مصالح القوى المتصارعة.
هل تنجح الدبلوماسية في لجم التصعيد وإجبار الأطراف على التزامات حقيقية، أم أن السيناريو الأكثر احتمالاً هو تصعيد محدود ومسيطر عليه، يستمر فيه المواطن اليمني في دفع ثمن الردع المتبادل؟

