صدى الواقع اليمني – تقرير : حسين الشدادي



في غضون سنوات قليلة، غيّر الذكاء الاصطناعي ملامح الكتابة الإبداعية. لم يعد تأليف كتاب حلماً بعيد المنال كما كان في السابق، بل صار متاحاً لكل من يملك اتصالاً بالإنترنت وحساباً في أداة مثل ChatGPT. بات ما يُعرف اليوم بـ”الأدب الروبوتي” واقعاً ملموساً، لا سيما بعد أن أدرجت منصة أمازون أكثر من 200 كتاب من تأليف الذكاء الاصطناعي، بل يُرجّح أن يكون الرقم قد تجاوز ذلك بكثير مع مرور الوقت.

ومع سهولة الوصول إلى هذه الأدوات، انفتح المجال أمام عدد هائل من الهواة و”أنصاف الكتّاب” ليضعوا أسماءهم على أغلفة كتب ربما لم يكتبوا منها أكثر من العنوان، مستعينين بالذكاء الاصطناعي في توليد المحتوى وصياغة الأفكار، وهو ما يثير تساؤلات جدية حول الأصالة والإبداع والحقوق الفكرية.

أزمة الإبداع في زمن الخوارزميات



لطالما اعتُبرت الكتابة الإبداعية عملية شاقة تتطلب جهداً ذهنياً ووجدانياً، وقدرة خاصة على تحويل الفكرة إلى كلمات نابضة بالحياة. لكن في زمن الذكاء الاصطناعي، تغيّرت المعادلة. إذ أصبحت بعض الأدوات قادرة على توليد قصص، قصائد، وسيناريوهات متكاملة في ثوانٍ معدودة.

بريت شيكلر، بائع من روتشستر بنيويورك، هو أحد الأمثلة اللافتة. لطالما حلم بتأليف كتاب، لكنه لم يمتلك الموهبة الأدبية أو المهارات اللغوية الكافية. باستخدام ChatGPT، ألّف كتاباً إلكترونياً للأطفال من 30 صفحة في بضع ساعات فقط، وأدرجه على منصة “أمازون” تحت اسمه دون ذكر أي إشارة إلى الأداة التي ساعدته. يقول شيكلر: “بدت فكرة تأليف كتاب ممكنة أخيراً.. اعتقدت أنه يمكنني القيام بذلك.”

هذا المشهد يفتح الباب لتساؤلات جوهرية: هل تمثل هذه الكتب إبداعاً حقيقياً؟ وهل يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على خلق نصوص أصيلة تُضاهي نصوص الأدباء؟ أم أنها مجرد إعادة تدوير لما قرأته الخوارزميات سابقاً؟

معنى الإبداع.. وما الذي يميّز الكاتب البشري؟



بحسب “موسوعة ستانفورد للفلسفة”، يتضمن الإبداع عناصر عدة: الأصالة، المرونة، الخيال، والقدرة على تجاوز الأنماط التقليدية. في الأدب، ينعكس ذلك في القدرة على التعبير العاطفي، توليد الصور الفنية، وابتكار جُمل تحفر في الذاكرة، مثل قول محمود درويش:

“حاصر حصارك لا مفر…”







أو بيت المتنبي الشهير:

“وهَبْني قُلتُ: هذا الصّبْحُ لَيْلٌ.. أيَعْمَى العالمُونَ عَنِ الضّياءِ؟”





هذه الجُمل لا يمكن برمجتها. لا يمكن إقناع الخوارزمية بأن “تحاصر حصارك” تعني شيئاً حقيقياً، أو أن الصبح يمكن أن يكون ليلاً إلا في الوجدان، في الحزن، في الثورة، في المفارقة الشعرية التي تفهمها النفس البشرية وحدها.

تجربة عملية: عندما يكتب الذكاء الاصطناعي شعراً



قام كاتب التقرير بإجراء تجربة مع ChatGPT، طالباً منه كتابة مقطع شعري عن “فك الحصار” بعد تزويده بعدد كبير من الأمثلة والمعاني. وهذه كانت النتيجة:

“ينبت الصمود من جذور العزيمة،
تتحد الأمم لرفع الحصار بصفاء…
يكتب التاريخ حكاية شعب ينهض
يُحطم القيود وينسج الحرية خيوطها…”







ورغم التماسك الظاهري، تفتقر هذه الأبيات إلى الأصالة والدهشة الشعرية، وتعتمد في الغالب على تراكيب لغوية محفوظة وقوالب جاهزة.

الإبداع البشري مقابل إنتاج الخوارزميات



تعتمد أدوات الكتابة بالذكاء الاصطناعي على خوارزميات تعلّم عميق، تقوم بتحليل كميات ضخمة من النصوص المكتوبة بشرياً، لتعيد إنتاج نصوص شبيهة. وفقاً لمنصة “AI Contentfy”، فإن هذه الأدوات لا تُنتج فكراً جديداً، بل تعيد تركيب ما سبق لها أن قرأته.

ولهذا، تبدو نصوصها أحياناً خالية من العاطفة، مفتقدة لطبقات المعنى، ولا تُدرك السياقات التاريخية أو الثقافية الدقيقة التي قد تجعل جملة واحدة تحمل أكثر من تأويل.

حدود الذكاء الاصطناعي: غياب الخيال والتجربة الحسية



لن يستطيع الذكاء الاصطناعي – مهما تطوّر – أن يعيش تجربة الحب، الفقد، الفقر، أو الحنين. لا يستطيع أن يُصاب بالخذلان أو أن يفرح بولادة طفل. هذه المشاعر المتراكمة، المتشابكة، هي المادة الخام التي يصنع منها البشر فنّهم. بينما الخوارزمية تظل، مهما بلغت، كائناً بلا قلب.

كما لا يمتلك الذكاء الاصطناعي مهارة التخيّل الحر أو الاستعارات المعقدة، فهل يمكنه مثلاً ابتكار صورة مثل:

“كجلمود صخرٍ حطّه السيلُ من علِ”؟





هذه الصور الفنية ليست مجرد كلمات، بل هي تراكم ثقافي وإحساس جمالي لا يمكن ترجمته إلى معادلات رياضية.

ما الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدمه للكاتب؟



رغم الانتقادات، ثمة جوانب إيجابية يمكن أن تُوظّف لصالح الكاتب الحقيقي، في إطار ما يُعرف بـ”النموذج التعاوني” بين الإنسان والآلة. ومن أبرز أدوار الذكاء الاصطناعي في هذا المجال:

البحث السريع وجمع المعلومات: يمكنه اختصار ساعات من البحث في دقائق.

التدقيق اللغوي والنحوي: يُصحح الأخطاء بدقة، ويوفر بدائل للمفردات.

بناء الحبكة والشخصيات: يقدم اقتراحات مفيدة لتطوير الأحداث أو رسم ملامح الشخصية.

تحليل الأسلوب وتكرار الكلمات: يُساعد على تحسين جودة النص وسلاسته.

تقديم ملاحظات فنية حول البنية والوضوح: مما يساعد الكاتب على مراجعة نصه نقدياً.


هذا النوع من التعاون يُشبه وجود “مساعد رقمي ذكي” في غرفة الكاتب، لكنه لا يمكن أن يكون هو الكاتب.

من يملك المستقبل؟



هل يُمثل الذكاء الاصطناعي تهديداً حقيقياً للكتابة الإبداعية؟ أم أنه مجرد أداة يمكن تسخيرها لتعزيز القدرات البشرية؟ في الحقيقة، كل إجابة تعتمد على من يطرح السؤال.

الأدب ليس وظيفة تقنية يمكن أتمتتها بالكامل. صحيح أن كثيرين يضعون أسماءهم على كتب كتبتها الخوارزميات، لكنهم لا يكتبون بها أرواحاً، ولا يمنحون القارئ تجربة فريدة تستحق أن تُروى. الأدب الحقيقي ما يزال يخرج من القلب، من التجربة، من الألم والأمل والدهشة.

الذكاء الاصطناعي قادر على “المساعدة”، لكنه لا يستطيع أن “يبدع”. ولعل هذا هو الفارق الأبدي بين الكاتب والآلة.



المصادر:

Stanford Encyclopedia of Philosophy

PCMag Report on AI-generated Books

AI Contentfy Report

Digital Commons, Lindenwood University

Geny.AI Literary Tools

تجربة عملية شخصية من الكاتب مع ChatGPT

🔗 رابط مختصر:

اترك رد