صدى الواقع اليمني – كتب : حسين الشدادي
في بلادٍ لا تستقر على حال، وشعبٍ تتنازعه الولاءات والخرائط، يظل هناك رجال من طينةٍ نادرة، يُسمّون في جغرافيا الحروب “أبناء المناطق الوسطى”، لكنهم في خرائط الدم والولاء الحقيقي أبناء اليمن كلّها لا يرفعون شعارًا إلا إذا صدّقته أرواحهم، ولا يدخلون معركة إلا وسلاحهم في يمينهم، وقلبهم معلق بجدار الوطن.
هؤلاء الذين ما ركنت إليهم الجبهات إلا واستقامت، ولا ناداهم الواجب إلا وتقدموا، لم يطلبوا جزاءً، ولم ينتظروا شكورًا، ولم يصنعوا مجدهم من صدى الميكروفونات، بل نسجوه بخيوط البنادق، وبكاء الأمهات، ودموع الأطفال خلف كل جبل وصوب.
هم أول من يحضر عند الفزع، لأنهم يعرفون معنى أن تُفزع أمة، ويعرفون ماذا يعني أن تُداس الكرامة تحت أقدام الوافدين من سراديب التاريخ. يهبّون لأن فيهم من شيم العرب بقايا لا تنقضي، ومن شهامة القرى ما يجعلهم يتركون الحقل والبيت والخبز، ليقارعوا من أراد لليمن أن تكون ظلاً خامسًا في بلاط الإمامة.
وحين يتزاحم الطامعون عند الغنائم، وينهمك الساسة في تقسيم الكعكة على خرائط الولاءات، لا تراهم، لأنهم لم يُربّوا على الطمع، بل على العفّة، وعلى مائدة الجمهورية لا يأكلون إلا لقمة الكرامة. يلوذون بصمتهم النبيل، ويسندون الوطن لا السلطة، والمبدأ لا المصلحة.
لقد خُدع كثيرون حين ظنوا أن أبناء الوسط بلا عصبية، وأنهم يمكن أن يُحشَدوا دائمًا لمعارك الآخرين، لكن الحقيقة اليوم تتجلّى، فإذا كانت العصبية سلاحًا يُشهر في وجوه الآخرين، فإن أبناء هذه الجغرافيا قادرون، متى ما أرادوا، أن يُخرجوا من بواطن جبالهم عصبية من نوع آخر: عصبية للوطن، للهوية، للجمهورية.
هم لا يطلبون جزاءً ولا منصبًا، لكنهم لا يقبلون أن تُجزى تضحياتهم بالتجاهل أو التنكر أو الإقصاء. فإذا لم تكن الجمهورية، بكل ما فيها من القيم والمبادئ، كافية لحشد القلوب والصفوف، فليكن القتال عصبية مقابل عصبية، وانحياز للجبل مقابل انحياز للسلالة، وقِبلة لليمن مقابل قبائل تابعة لحلم الفقيه الخارج من كتب السلالة.
لقد آن للجميع أن يفهموا: هؤلاء الرجال، أبناء الحجر والمحاريث، لم يعتادوا أن يكونوا تابعين. لا لحاكم، ولا لمرجع، ولا لشيخ. هم فقط يؤمنون بما اقتنعوا به، ويقاتلون من أجل ما آمنوا به، ويقفون حيث يجب الوقوف، لا حيث يُطلب منهم الركوع.
ليسوا خطباء الساحات، ولا نجوم الشاشات، لكنهم جنود الصف الأول. تتعدد الجهات، وتتناسل الفصائل، ويبقون هم الثابت الوحيد الذي يُعوّل عليه حين تنهار كل الأعمدة.
اليوم، والحرب تأكل الأطراف، والمؤامرات تمزق ما تبقى من خيوط اللحمة، يعود السؤال: من الذي يحمل اليمن على ظهره؟ من الذي يروي ترابها بدمه؟ من الذي ما ملّ من الحرب، ولا تعب من الوفاء، ولا خذلته الروح ولا الجراح؟
الجواب هناك، في قرى قيفة، وفي مزارع النادرة، وعلى تخوم الحوبان، وذمار، وإب، ويريم، وجبال العدين، حيث الرجال لا ينحنون إلا لله، ولا يوالون إلا لمن يحمل راية الوطن عاليًا دون خيانة أو التفاف.
ليسوا أتباعًا لأحد، ولن يكونواوإن اقتضت اللحظة أن تكون العصبية طريقًا، فليكن جبل في وجه جبل، وصوت يمانٍ في وجه من يريد لليمن أن تصير صدىً لخرافةٍ مقدّسة.
إنهم رجال الوسط… ليسوا في الوسط إلا على الخارطة، أما في الكرامة، فهم القمّة.