صدى الواقع اليمني – تقرير: حسين الشدادي

في وطن أنهكته الحروب والخيانات، لم تكن الطائرات وحدها هي التي تسقط من السماء، بل سقط معها الشرفاء الذين حاولوا انتشال ما تبقى من مؤسسات الدولة من بين أنياب الفساد. الكابتن طيار طلال الشاوش، الأول على دفعته، لم يكن مجرد ضابط يؤدي مهامه الروتينية، بل صوتًا رفض الصمت على تآكل القوات الجوية من الداخل، فكان مصيره أن يُسجن، ويُطارد، ثم يُنقل إلى زنزانة بلا تهمة في بلد غريب.

بداية الحكاية.. حين قرر أن لا يصمت





التحق الكابتن طلال الشاوش بالقوات الجوية اليمنية كطيار مقاتل بعد أن أحرز المركز الأول على دفعته، وكان يتمتع بمهارات وكفاءة عالية. إلا أن ما لاحظه منذ أيامه الأولى في السلاح الجوي من اختلالات واضحة وفساد إداري وفني عميق، جعله يقف في مفترق طرق: إما أن يغض الطرف كغيره، أو أن يواجه الواقع بكل ما يحمله من مخاطرة.
فقرر الخيار الأصعب.

على مدى سنوات، وثّق الشاوش أعطالًا في الطائرات المتهالكة، وسجّل بلاغات رسمية حول الإهمال المتعمد لصيانة المقاتلات، والأخطر من ذلك، وجود تلاعب بأرواح الطيارين الذين كانوا يسقطون الواحد تلو الآخر في حوادث متكررة، يتم تسويغها دائمًا بـ”القدر” أو “الخطأ البشري”.

المنصب الذي قلب الطاولة





عُيّن الشاوش – وكان لا يزال برتبة نقيب – مديرًا لأمن وسلامة الطيران في قاعدة العند، رغم أن المنصب كان يُمنح عادة لضباط برتبة عقيد. فظنّت القيادة أن “المنصب” سيخمد نبرته، لكنه زادها اشتعالًا.

بدأ طلال بتوثيق كل ما يجري داخل القاعدة: أعطال الطائرات، مخالفات فنية، إهمال صارخ، واختلاسات تمسّ أرواح الطيارين مباشرة. تقاريره وصلت إلى القيادة، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل لجأ إلى الإعلام، ووضع الوثائق أمام الرأي العام عبر القنوات الفضائية والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.

رد الفعل: اعتقال.. ومحاكمة عسكرية





في محاولة لإسكاته، اعتُقل الشاوش داخل دائرة الاستخبارات العسكرية بالقوات الجوية، واحتُجز قرابة شهر في ظروف صعبة، قبل أن يُقدّم إلى القضاء العسكري بتهمتين: رفض الأوامر العسكرية، وتسريب معلومات.

وخلال المحاكمة، صدر حكم ابتدائي بحقه وبحق زميله المناضل الطيب صادق، كان الهدف منه كسر إرادتهما. لكنهما رفضا القبول بالحكم، وتقدما بطعن قانوني عبر المحامي البارز هائل سلام، الذي نجح في انتزاع حكم استئناف تاريخي لصالحهما.

ذلك الحكم فضح ما كانت تخفيه قيادة القوات الجوية، وأكد صحة البلاغات التي رفعها الشاوش، وأعاد الاعتبار لضحايا حوادث الطيران من زملائه.

ثمناً للحقيقة.. المطاردة مستمرة





لم تسكت القيادة، بل كثّفت من الضغوط والتهديدات. وبعد حصوله على البراءة، ظلت المطاردة تطارده. ففي عام 2017، وبينما كان الشاوش يهم بمغادرة مطار عدن في رحلة عمل، تم اعتقاله مجددًا على سلم الطائرة، واقتيد إلى سجن “فتح”، بحجة وجود بلاغات أمنية ضده. لكن جهود الزملاء وتدخل العناية الإلهية أفرجت عنه، وأثبت لاحقًا أن البلاغ صادر من قيادة القوات الجوية نفسها.

الهروب إلى المجهول.. من طيار إلى عامل ورشة





أمام استحالة العيش في بلاده بحرية، وضيق الوضع المعيشي، قرر الشاوش مغادرة اليمن للعمل في السعودية بطريقة رسمية. وهناك، بدأ حياة جديدة من الصفر، حيث عمل في إحدى ورش اللحام وتجهيز المطاعم في العاصمة الرياض.

قصة الطيار الذي أصبح “عامل ورشة” لاقت تفاعلًا واسعًا في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، ووصل صداها إلى صحيفة “عكاظ” السعودية التي أجرت مقابلة معه داخل الورشة.

مقابلة إعلامية.. فاعتقال جديد





في المقابلة، أجاب الشاوش عن أسئلة حساسة منها:

لماذا غادرت اليمن للعمل في السعودية؟

ما سبب تخلي الدولة عنك؟

هل لديك خبرة في الأعمال التي تقوم بها الآن؟


كانت إجاباته عقلانية ومدروسة، حاول فيها نقل معاناة الطيارين والمواطنين اليمنيين عمومًا دون تصعيد سياسي أو تحريض. إلا أن المقابلة أثارت حفيظة خصومه، فوصلته رسالة تهديد من زميل سابق قال فيها:
“طلال أصبح عندنا، والآن سنربيه”.

لم تمر أيام حتى تم اعتقاله مجددًا من قبل جهاز أمن الدولة السعودي، واحتُجز في سجون سرية لخمسة أشهر متتالية، تعرض خلالها لتعذيب نفسي وجسدي شديد، قبل أن يُفرج عنه دون توجيه تهمة رسمية، ما يثير الكثير من التساؤلات حول التنسيق بين جهات يمنية وسعودية لاستهدافه.

قضية الكابتن طيار طلال الشاوش ليست مجرد قصة ضابط شريف كشف فسادًا فدفع الثمن، بل مرآة تعكس حجم الانهيار الأخلاقي والمؤسسي في بعض وحدات الدولة، والتواطؤ المريب بين القيادات الفاسدة لإقصاء كل صوت حر.

وحتى اليوم، لا يزال الشاوش يدفع ضريبة شجاعته، باحثًا عن حياة كريمة، في بلد لم يعرف كيف يحميه، وفي منفى يُستخدم فيه كأداة “تأديب” لكل من تسوّل له نفسه أن يقول الحقيقة.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد