صدى الواقع اليمني – كتب : حسين الشدادي
في زمنٍ تداعت فيه الأوزان على جدار المعنى، وتكاثفت فيه الغياهب حول سُرُج الكلمة، يجيء يحيى الحمادي، لا بوصفه شاعرًا يُغنّي على أطلال المجاز، بل كمَجازٍ يتجسّد في هيئة إنسانٍ ينهض من تحت رماد الهويّة القومية المنتهكة، حاملًا في يراعه ما لا تحتمله الأقلام ولا تقوى على الإفصاح عنه الألسن المعتادة.
الحمادي ليس شاعرًا تقليديّ النزعة، يتوسّل اللفظة لمديح أو غزلٍ عابر، بل هو كائنٌ بلاغيّ فائق الكثافة، يتخذ من اللغة سلاحًا بيانيًا يُنازل به الخواء الوجودي والضياع الوطني والتشظّي الجمعي، وهو إذ يفعل، لا يكتب الشعر، بل يؤسِّس للغة ما بعد الشعر، حيث تنفلت الدوال من قيود المدلول وتتهاوى البنية الظاهرة أمام جلال التوتّر الدلالي الذي يتكثّف في قصيدته كالعاصفة في رحم الغيم.
فهو حين يقول:
“بِذَهَابِهِ أَهْوَاهُ أو بإِيَابِهِ
وأعِيشُ رَهْنَ حُضُورِهِ وغِيَابِهِ”
لا ينطق عن مجرد وجدانٍ شفيف، بل يبعث على لسان الوطن ذاته، حيث يتحوّل الوطن إلى معشوقٍ لا يخضع لجدلية الحضور والغياب، لأن كينونته مضمخة في كل مفصل من مفاصل الكينونة الشعرية لدى الحمادي.
أما في ملحمته “عائد من الجبهة”، فإن القصيدة لا تُروِي بقدر ما تُنزف، وهي لا تصف الجندي العائد، بل تُجسّد الخيبة الجغرافية للدم، حيث يتحول الوطن إلى أرضٍ تتقيأ أبناءها جياعًا، نازفين، يُشبهون الرعاة الذين ضلّوا الطريق في خضمّ النكوص الكبير. كل سطر في هذه القصيدة هو عَصَبٌ مفتوحٌ على لحم المأساة، لا يبحث عن تبرير، بل يفتح فم القصيدة على فجيعة لا تنغلق.
أما في “قلقان”، فنحن إزاء قصيدة لا تقبل التأويل البسيط ولا تقيم في منازل الدلالة المعهودة، بل تنبني على أنقاض الزمان والمكان والهوية. فحين يقول:
“لا غائمٌ أُفقي، ولا صحوُ
والناسُ لا حضرٌ، ولا بدوُ”
فهو لا يصف، بل يُؤسِّس لمفهومٍ شعريّ جديد: “اللاهوية”، “اللاتاريخ”، “اللامستقبل”، حيث الذات تعيش في تجويفٍ لغويّ مُرتجّ، بلا مرافئ ولا بوصلة.
وفي قصيدته القاصمة “وطناً أريد الآن”، يبلغ الخطاب السياسي الشعري ذروته اللاهبة، حيث يتقمّص الحمادي دور النبيّ الغاضب، لا ليبشّر، بل ليفضح. الخطاب هنا لا يخاطب سلطة بعينها، بل كلّ منظومة الفساد والتشظّي والانفصال عن المعنى، من “الصحائف الصفراء” حتى “قصّاب الطعن من الظهر”. إنها فاجعة الوطن حين يتّحد فيه القاتل والمقتول في هوية واحدةٍ مشوّهة.
وما بين “عام الخيام” و”الخروج الثاني من الجنة”، يكتب الحمادي قصيدة المنفى الداخلي، حيث الجنة ليست جنة، والخروج منها ليس خلاصًا بل هبوطًا إلى دركٍ أكثر وعيًا، أكثر فجيعة. أما ديوان “نحت في الدخان”، فهو بمثابة تفكيك متواصل لمعمار اليقين، محاولة مستحيلة لبناء الجمال فوق الفراغ.
إننا لا نقرأ يحيى الحمادي لنرتوي، بل لنُجرَح. لا لنرتاح، بل لنتزلزل. فقصيدته ليست فسحةً تأمّلية، بل صاعقة بلاغية تُعيد ترتيب الدم في شرايين اللغة. هو شاعرٌ يتوسّد وجع البلاد ويستيقظ على دويّ الخيانة التاريخية. وفي زمنٍ سقط فيه أكثر الشعراء في غواية الخفة والترف، ظل الحمادي مخلصًا للجمر، للتراب، للسكين التي لا تزال في خاصرة الوطن.
إنه شاعر ما بعد النكبة، وما قبل اليقظة، يُدوّن ما لا تجرؤ على تدوينه المجالس، ويرتّب أوجاعنا في قصيدةٍ لا تُشبه إلا نفسها… قصيدةٌ بكثافة الخسارة، بصلابة الإيمان، وبجمالٍ فادحٍ لا يُطاق.