صدى الواقع اليمني – تقرير: خاص
بينما تتسارع وتيرة الانهيار الاقتصادي وتزداد معاناة المواطنين في مختلف المحافظات، تتجه بوصلة كثير من الفاعلين العسكريين والسياسيين نحو إعادة تموضع النفوذ وتشكيل كيانات مسلحة جديدة، في مشهد يشي بأن القادم في اليمن لن يكون أكثر استقرارًا مما مضى، بل أكثر تعقيدًا. عادت أسماء كانت قد غابت بفعل الضغط الشعبي أو الفشل الإداري إلى الواجهة، في إطار حملات تلميع وإعادة تدوير ممنهجة، وسط غياب تام لأي رؤية سياسية أو عسكرية توحد صف الشرعية.
عودة “المقدشي” و”محسن”.. من الفشل إلى إعادة التدوير؟
خلال الفترة الماضية، رُصدت حملة إعلامية لافتة تهدف إلى تلميع صورة وزير الدفاع الأسبق الفريق محمد علي المقدشي، الذي ارتبط اسمه طويلاً بفشل إداري وعسكري في عدد من الجبهات، لا سيما في نهم والجوف ومأرب، وهو ما كلّف الشرعية تراجعًا كبيرًا على الأرض.
ومع أن المقدشي أُبعد رسميًا من منصبه، إلا أن ظهوره الإعلامي مجددًا ضمن سياق يمجّده بوصفه “رمزًا للثبات” ليس محض صدفة، بل يندرج ضمن محاولات قوى معينة داخل الشرعية لإعادة تدوير أدواتها القديمة، في ظل فشل البدائل أو غياب الرؤية الموحدة داخل المجلس الرئاسي.
الأمر نفسه ينطبق على الفريق علي محسن الأحمر، النائب السابق للرئيس هادي، والذي أُقيل مع تشكيل مجلس القيادة الرئاسي. فبعد فترة من الغياب والجمود، بدأت تسريبات عن محاولات “إعادة الاعتبار” للرجل، بالتزامن مع تحركات سياسية وإعلامية محسوبة، سواء داخل بعض الأوساط القبلية أو الحزبية، في محاولة لإعادته إلى المشهد من بوابة “الخبرة والتوازن”، رغم أن فترة وجوده شهدت اختراقات حوثية مروعة وضعفًا مؤسسيًا في إدارة المعركة.
لعكب من تحت الأنقاض إلى تشكيل لواء عسكري؟
المفارقة الصادمة في المشهد اليمني الحالي ليست فقط في تكرار سيناريوهات إعادة التدوير السياسي، بل في تجاوز كامل للهياكل المؤسسية للدولة. ففي مأرب، تم رصد تحركات للقيادي عبدربه لعكب، الذي كان قد أُقصي من المشهد بعد أحداث دامية في شبوة، وهو الآن يعود من تحت الأنقاض – حرفيًا – لتشكيل لواء عسكري جديد تحت مسمى “لواء الاستقلال”، دون أي قرار رسمي من وزارة الدفاع أو المجلس الرئاسي.
اللافت أن تشكيل هذا اللواء جرى دون إعلان واضح عن تبعيته، وسط صمت مطبق من قيادة وزارة الدفاع، ما يعكس حجم التفكك المؤسسي، ويطرح أسئلة خطيرة: من الذي يمول هذا اللواء؟ ولصالح من يعاد إنتاج هذه الكيانات العسكرية في توقيت حرج كهذا؟ وهل الهدف هو دعم المعركة الوطنية أم تعزيز مراكز النفوذ الشخصي والحزبي؟
بن حبريش يشكّل لواء في حضرموت: بأوامر من؟
الضبابية لا تقتصر على مأرب، ففي حضرموت أيضًا، وتحديدًا في المكلا، أصدر الشيخ حسن بن سعيد بن حبريش، وكيل أول المحافظة والقيادي القبلي البارز، قرارًا أحاديًا بتشكيل لواء عسكري جديد، دون العودة إلى وزارة الدفاع أو المجلس الرئاسي، وهو ما فتح أبواب التساؤلات على مصراعيها: هل أصبحت حضرموت جمهورية داخل جمهورية؟ ومن يدعم بن حبريش؟ وما هو موقف التحالف من هذه الترتيبات التي تتعارض تمامًا مع اتفاق الرياض وروح الشراكة الوطنية؟
العرادة يغادر مأرب بصمت.. وصراع خفي على الزعامة؟
في الخلفية، يغادر اللواء سلطان العرادة، عضو المجلس الرئاسي ومحافظ مأرب، المدينة التي شكلت رمزية الصمود بوجه الحوثي منذ سنوات، ليستقر به المقام في الرياض بهدوء وصمت مريب.
مصادر مقربة تشير إلى أن العرادة يعيش حالة “غضب مكتوم” بسبب تهميشه في التعيينات والقرارات، وتراجع نفوذه داخل محافظة مأرب لحساب لاعبين جدد مدعومين من قوى داخل المجلس الرئاسي. وهو ما يثير مخاوف حقيقية من تفكك مركز القرار في محافظة مأرب، التي لا تزال – حتى اللحظة – خط الدفاع الأول في وجه الحوثيين.
قراءة في المشهد: ما يجري لا علاقة له بالمعركة ولا بمعاناة الناس
كل هذه الترتيبات والتحركات تجري في وقت تشهد فيه البلاد انهيارًا غير مسبوق في العملة الوطنية، وارتفاعًا مرعبًا في أسعار المواد الغذائية والوقود، وترديًا مأساويًا في الخدمات الصحية والتعليمية، وتوسع رقعة المجاعة في المحافظات المحررة، ومع ذلك، ينشغل كبار القادة بتشكيل ألوية جديدة، وحشد ولاءات قبلية، وصناعة مشاهد إعلامية توحي بأننا على أعتاب “مرحلة جديدة”، فيما الواقع يشي بانحدار نحو مزيد من التشظي والانهيار.
والواضح أن الصراع في اليمن لم يعد صراعًا بين مشروع الدولة والميليشيا، بل تحوّل – في مناطق الشرعية تحديدًا – إلى سباق على النفوذ والمغانم، في ظل غياب قيادة موحدة، وتضارب الأجندات الإقليمية، وتراجع المانحين الدوليين.
وإذا لم يتم وضع حد لهذه الفوضى العسكرية والسياسية، فإن القادم قد يحمل نماذج “ميليشياوية” جديدة ترتدي الزي العسكري الرسمي، لكنها تعمل لحسابات خاصة، لا علاقة لها لا بالجمهورية، ولا بالمعركة، ولا بمعاناة الشعب اليمني.