صدى الواقع اليمني – تحقيق: حسين الشدادي

منذ حادثة مقتل الشاب الاغبري في العاصمة صنعاء قبل أعوام، والتي تحولت إلى قضية رأي عام هزّت الضمير اليمني، لا تزال تداعياتها تكشف حجم الأزمة الأخلاقية والقانونية التي يعيشها المجتمع اليمني في ظل غياب تشريعات واضحة تجرّم الابتزاز الإلكتروني وتعاقب مرتكبيه بما يتناسب مع خطورة الجريمة.

ففي تلك الحادثة، كان الاغبري ضحية جريمة مركبة؛ قتلته أيادٍ إجرامية بعد أن كشف شبكة تعمل في ابتزاز الفتيات بصورهن الخاصة. غير أن التناول الإعلامي والجماهيري حينها، تمحور حول مشهد القتل المروّع فقط، في حين تم تجاهل جوهر القضية: جريمة الابتزاز الإلكتروني المنظمة، التي كانت السبب الحقيقي وراء تصفيته.

ومع مرور السنوات، لم يتغير المشهد كثيرًا.
فقد شهدت البلاد موجات متتالية من جرائم الابتزاز الإلكتروني، بعضها يُدار من خارج اليمن، وبعضها الآخر عبر شبكات محلية منظمة تضم أفرادًا من داخل المجتمع نفسه، بل وأحيانًا من داخل الأجهزة الأمنية، كما حدث مؤخرًا في حي السلخانة بمدينة تعز.

شبكة تعز… ابتزاز ممنهج يقوده مسؤولون

في تفاصيل الجريمة الأخيرة التي تصدرت مواقع التواصل الاجتماعي قبل أيام، ظهر مقاطع مصوّرة صادمة تُظهر طفلًا يُجبر على الركوع تحت أقدام رجل وتقبيلها في مشهد مهين، إلى جانب فيديو آخر لشاب من تعز يعترف بأنه سلّم لأحدهم خمسين ألف ريال سعودي وسلاحين (مسدس وكلاشنكوف)، بعد تهديده بنشر مقاطع فاضحة له.

الأدهى من ذلك أن التحقيقات الأولية كشفت أن عاقل الحارة وضابطًا في قسم الشرطة وأفرادًا من الأمن كانوا يُديرون الشبكة الإجرامية بالتعاون مع بعض الشباب والفتيات الذين تحولوا من ضحايا إلى أدوات ابتزاز تُستخدم ضد غيرهم.
وهكذا تحولت الجريمة من ابتزاز فردي إلى منظومة فساد أخلاقي وأمني متكاملة، تستغل ضعف القانون وتواطؤ المجتمع، لتعيد إنتاج الضحايا على نطاق واسع.

ثغرات قانونية وعقوبات غير رادعة

من الناحية القانونية، لا يوجد في اليمن حتى اليوم قانون خاص بالجرائم الإلكترونية، رغم تصاعدها بشكل غير مسبوق.
ويتم تكييف مثل هذه القضايا عادة وفق مواد عامة في قانون الجرائم والعقوبات رقم (12) لسنة 1994م، مثل:

المادة (313) التي تجرّم الابتزاز والتهديد.

المادة (256) الخاصة بانتهاك حرمة الحياة الخاصة.

لكن هذه النصوص وُضعت قبل أن يدخل الإنترنت إلى اليمن أصلًا، ولا تتضمن أي إشارات إلى الفضاء الرقمي أو الأدلة الإلكترونية، وهو ما يجعل العقوبات الحالية ضعيفة وغير رادعة، إذ لا تتجاوز الحبس لعدة أشهر أو سنوات قليلة، وغالبًا ما يُفرج عن المبتزين بعد فترات قصيرة ليعودوا إلى نشاطهم الإجرامي دون خوف.

هذا الضعف التشريعي جعل الجرائم الإلكترونية بيئة آمنة للجناة، وترك الضحايا أمام مصير مظلم، بلا حماية قانونية ولا مؤسسية.

الأستاذ محمد أحمد الشدادي: الجريمة تبدأ من الصمت الأسري

في حديثٍ خاص لـ«صدى الواقع اليمني»، قال الأستاذ محمد أحمد الشدادي – وكيل مدرسة الثورة الثانوية في منطقة يفرس بمديرية جبل حبشي – إن جذور المشكلة ليست قانونية فقط، بل اجتماعية وتربوية في الأساس.
وأضاف:

“الكثير من حالات الابتزاز تبدأ بصورة عادية، ربما التقطت لفتاة داخل منزلها بملابس منزلية، تصل صدفة إلى مبتزّ يعرف كيف يوصل إليها عبر تطبيقات التواصل مثل واتساب. فيهددها بنشر الصورة إن لم تلبِّ طلبه الأول، الذي يبدو بسيطًا، ثم تتصاعد المطالب حتى تنتهي الكارثة.”

ويشير الأستاذ الشدادي إلى أن المبتز يعتمد على فجوة التواصل بين الفتيات وأسرهن، ويستغل خوفهن من العقاب المجتمعي:

“الفتاة في مجتمعنا لا تستطيع أن تشتكي لوالدها أو أخيها، لأنها تعرف أن أول رد فعل سيكون اتهامها في شرفها، لا حماية عرضها. فالمجتمع ما زال يحكم على الفتاة بأنها مصدر عيب وفضيحة، حتى لو كانت ضحية جريمة.”


من صورة عادية إلى انتحار مأساوي

يروي الشدادي تفاصيل مأساة حقيقية شهدها خلال الأعوام الأخيرة:

“إحدى الفتيات في محافظة الحديدة أقدمت على الانتحار بعد أن كانت ضحية لابتزاز بدأ بصورة التقطت لها في عرس نسائي، ثم أُجبرت على الخضوع لطلبات المبتز، حتى أصبحت تُجند فتيات أخريات عبر تصويرهن خفية، قبل أن تنهار وتُنهي حياتها.”

هذه القصة، كما يقول الشدادي، ليست خيالًا ولا حالة فردية، بل واقع متكرر في المدن والقرى اليمنية، حيث تُجبر الفتيات على الانصياع للمبتز خشية العار، وحين تفقد الأمل، يكون الموت هو المخرج الوحيد.

ثقافة تُدين الضحية وتُعفي الجاني

يرى الأستاذ الشدادي أن المجتمع اليمني بحاجة إلى ثورة فكرية في التعامل مع قضايا الشرف والابتزاز، إذ إن ردود الأفعال الأسرية الخاطئة تساهم في تفاقم الجريمة:

“يجب على الآباء أن يمنحوا بناتهم الأمان والثقة، حتى لو ارتكبن خطأ بسيطًا كإرسال صورة. الخطأ وارد، لكن الجريمة الكبرى هي الابتزاز. الحل أن تتعامل الأسر مع الموقف بعقلانية، وتشجع بناتها على الإبلاغ، لا على الصمت أو الخوف.”

ويؤكد الشدادي:
“على المجتمع أن يجرّم المبتز لا الفتاة، وأن يعيب الفاعل لا الضحية. لأن ثقافة لوم الفتاة هي التي تمنح المبتزين قوتهم.”


مبادرة مجتمعية لمواجهة الظاهرة

انطلاقًا من هذه القناعة، يقود الأستاذ محمد أحمد الشدادي مبادرة توعوية بالشراكة مع الأستاذ أحمد محمد علي ناصر البكاري، تستهدف طلاب وطالبات مدرسة الثورة الثانوية في يفرس، وتشمل:

ورش عمل توعوية حول مخاطر الابتزاز الإلكتروني.

محاضرات تربوية عن الأمن الرقمي والخصوصية.

منشورات وملصقات إرشادية في أوساط الطلاب والأسر.

وقد تبنت صحيفة صدى الواقع اليمني هذه المبادرة دعمًا لحملة التوعية، انطلاقًا من مسؤوليتها الإعلامية في تعزيز الوعي المجتمعي والمطالبة بسنّ تشريعات رادعة تحمي الضحايا وتجرّم الجناة بصرامة.

رؤية نحو المستقبل: من الردع إلى الوقاية

من منظور وطني تقدّمي، لم تعد مواجهة الابتزاز الإلكتروني خيارًا قانونيًا فقط، بل قضية أمن اجتماعي وأخلاقي تمس استقرار الأسر والمجتمع.
ولذلك، بات من الضروري:

1. إصدار قانون خاص بالجرائم الإلكترونية يحدد الأركان والعقوبات بوضوح، ويواكب التطورات الرقمية.

2. إنشاء وحدات تحقيق رقمية متخصصة في كل محافظة، مزودة بخبرات فنية في تتبع الأدلة الإلكترونية.

3. تضمين مفاهيم الأمن السيبراني الأسري في المناهج التعليمية، بدءًا من المرحلة الثانوية.

4. إطلاق حملات توعوية وطنية تشجع الضحايا على التبليغ وتكسر حاجز الخوف والوصمة.

جريمة المجتمع قبل أن تكون جريمة المبتز

في النهاية، تظل مأساة الابتزاز الإلكتروني في اليمن مرآة لثقافة اجتماعية معطوبة أكثر من كونها جريمة فردية.
المبتزّ يجد بيئة خصبة في مجتمعٍ يُعاقب الفتاة على كونها ضحية، ويغفر للرجل كل انحراف.
وما لم يتغير هذا الميزان الأخلاقي والقانوني، سيبقى الابتزاز الإلكتروني سلاحًا موجهًا ضد المرأة اليمنية، وضد كرامة المجتمع نفسه.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد