صدى الواقع اليمني – كتب: حميد التماري




إن الحرب الفكرية التي تستهدف عقل الشعب اليمني اليوم ليست نتاج صدفة ولا نتيجة ارتجال، بل هي إمتداد لحرب نفسية تدار بعناية وفق مشروع هيمنة وامبريالية عالمية تتحكم به قوى الشر وعلى رأسها الدول العظمى.. هذه الحرب لا تأتي بصوت المدافع وحدها بل بصوت الإعلام المضلل والتعليم المعطوب والاقتصاد الموجه والواقع الاجتماعي والسياسي الممزق، والهدف الرئيسي من كل ذلك ليس السيطرة على الارض فقط، وإنما السيطرة على الوعي وتحويل الانسان اليمني إلى كائن منهك مشغول بلقمة العيش فاقد للبوصلة يقبل بأي واقع مفروض عليه ولو كان ضد مصلحته الوطنية. وقد تبنت مليشيات الحوثي هذا النهج بحذافيره، فأصبحت الأداة المحلية المنفذة للمشروع، تدير الإعلام بخطاب تعبوي طائفي وتتحكم بالاقتصاد والخدمات لتكريس واقع الانهاك والقبول القسري.

في قلب هذه المنظومة يستخدم “الاقتصاد” كسلاح صامت لكنه بالغ التأثير فحين يعيش المواطن في ظل إنهيار العملة وإرتفاع الأسعار وانقطاع الكهرباء والماء وتراجع الخدمات الأساسية يصبح تفكيره محصورا في كيف ينجو يومه، لا كيف ينهض وطنه، وهكذا يدفع الى تبني سلوك البقاء بدلا من سلوك الحقوق والنتيجة شعب يرضخ لمعادلة الجوع والخوف ويؤجل كل قضاياه الكبرى من اجل فتات يلقى أمامه.. وهنا يتجلى دور الحوثيين بوضوح، حيث جعلوا المرتبات سلاحاً للتجويع، وحولوا الوقود والغاز والاتصالات إلى أدوات ابتزاز، ليرضخ الشعب تحت معادلة الحاجة والخوف.

أما “التعليم” فقد تم إفراغه من محتواه البناء وأستُبدِل بالتلقين الأيديولوجي واهمال التفكير النقدي وطمس الهوية الوطنية الجامعة. فيتخرج الطالب بلا أدوات للتفكير ولا قدرة على قراءة العالم او حماية نفسه من التضليل، يضاف الى ذلك آلة اعلامية ضخمة تغرق الفضاء اليمني بسيل من الشائعات والمقاطع المبتورة والترندات المصنوعة، حتى يفقد الجمهور حس التمييز بين الحقيقة والكذب عندها يصبح اي خبر قابلا للتصديق واي رواية قابلة للتبني فيغرق الوعي الجمعي في دوامة التيه.. وهذا ما جسدته المليشيات الحوثية عبر تغيير المناهج الدراسية وتفريغها من قيمها الوطنية، وبث خطابها العقائدي عبر الإعلام، لتتحول المدارس والفضائيات والإنترنت إلى أدوات غسيل عقول تصب في مصلحة الجماعة.

ولا تقف الحرب الفكرية عند هذا الحد بل تتغلغل في المجتمع لتفكيكه من الداخل. فتزرع الهويات الضيقة، قبيلة ضد أخرى مذهب ضد آخر حزب ضد آخر منطقة ضد أخرى، ليذوب المشروع الوطني الجامع وسط ركام الانقسامات فيتحول المجتمع الى جزر معزولة يسهل التحكم بها عبر وكلاء محليين بينما يدفن الحلم بالوحدة والنهضة تحت ركام الحروب الصغيرة.. وقد استغلت جماعة الحوثي هذه الثغرة بذكاء خبيث، فأحيت النزعات السلالية والمذهبية، وروّجت لخطاب “الأصل والفصل” في مواجهة بقية المكونات، لتفتيت المجتمع وتمزيق هويته الجامعة.

في “اليمن” على وجه الخصوص تتجلى هذه الحرب بأبشع صورها فمن إنهيار العملة وتراجع الخدمات إلى تحويل المرتبات والوقود والاتصالات الى مفاتيح ابتزاز بيد قوى الأمر الواقع، ومن تغيير المناهج وافراغ المدارس من قيمها، الى صناعة إعلام طاغ يعيد صياغة التاريخ ويبرمج الوعي بخطاب المظلومية والقداسة، ومن تحويل الطوابير على الرواتب والغاز الى طقس إذلال يومي إلى تمزيق المجتمع بخطابات سلالية وطائفية وحزبية، والنتيجة شعب محاصر بالخوف والحاجة بين آلة حرب عسكرية وآلة حرب فكرية كلاهما يهدفان الى نفس الشيء تجريد الانسان من ارادته.. وهذه الصورة ليست مجرد نتائج عرضية، بل نتاج تخطيط حوثي ممنهج ينفذ عبر السيطرة المباشرة على الاقتصاد والتعليم والإعلام، وبغطاء من منظمات دولية تعمل في مناطق سيطرتهم وفق أجندة تُسهل تمرير هذه المشاريع.

إن أخطر ما في هذه الحرب أنها لا تسعى فقط لاضعاف الاوطان، بل لإعادة صياغة الطموحات، حتى تخرج المواطن اليمني من إطار الحلم بدولة قوية عادلة إلى الحلم بمرتب لا ينقطع او بخدمة أساسية لا تنهار او بجواز سفر يتيح له الهروب بعيدًا عن هذه المآسي، وهنا تكمن الهزيمة الكبرى حين يتحول مشروع الحرية والسيادة إلى مجرد أحلام فردية بالنجاة.. وقد أتقن الحوثيون هذا الفن، فاختزلوا طموحات الناس إلى مجرد البقاء، بينما يحتكرون هم خطاب “السيادة” و”القداسة” لتبرير سلطتهم المطلقة.

لكن رغم ذلك فان الوعي بالحرب هو نصف الطريق لمواجهتها بناء سردية وطنية مضادة، كربط السيادة بالعيش الكريم وإصلاح التعليم ليعيد للعقل أدواته وانشاء إعلام مهني يكشف التضليل بدلا من أن يرد عليه بانفعال،.. كلها مسارات ضرورية لكسر الحلقة.. أي إن المعركة اليوم ليست بين جيشين فقط بل بين سرديتين، سردية الهيمنة التي تريد الانسان اليمني منكسرا، وسردية المقاومة التي تريده حرا كريما سيدا على ارضه وقراره.. وهنا يبرز واجب اليمنيين في مواجهة المشروع الحوثي الذي يمثل التجسيد المحلي لأجندة السيطرة العالمية، وبناء جبهة فكرية وإعلامية وتعليمية تكسر آلة التضليل وتستعيد وعي الشعب.

🔗 رابط مختصر:

اترك رد