صدى الواقع اليمني – كتب: حسين الشدادي
في القرآن الكريم، يرد النصّ قاطعاً لا لبس فيه
«ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ»
(سورة النور: 3)
نصٌّ واضح، لا يترك مساحة للتأويل أو الاحتمال، يُحرِّم زواج الزاني والزانية من العفيفين والعفيفات، ويحسم المسألة بصيغة نهي قطعي خُتمت بـ تحريمٍ صريحٍ على المؤمنين. ومع ذلك، نجد أن واقع المسلمين – في الماضي والحاضر – سار في الاتجاه المعاكس تماماً، فتمّ تعطيل هذا النصّ الواضح عبر سلسلةٍ من التأويلات التي بدّلت دلالته وقلّصت مقصوده.
في اللغة والسياق القرآني، لفظ «ينكح» يعني الزواج المشروع، وليس الجماع كما زعم بعض الرواة في روايات شاذة. فالقرآن حين قال: “وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ”
و «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ»
لم يكن يقصد الوطء، بل العقد الشرعي.
وبالتالي، فقول الله: «الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة» هو تشريع اجتماعي يهدف إلى ضبط منظومة القيم في العلاقات الأسرية، لا توصيفاً لسلوكٍ واقعٍ في المجتمع.
إنها قاعدة عدالة أخلاقية: من مارس الفاحشة لا يحق له – تشريعاً – أن يُتَّخذ زوجاً أو زوجةً لعفيف أو عفيفة.
منذ القرون الأولى، بدأت عملية “تليين” هذا الحكم عبر التأويل الفقهي.
فأُدخلت “التوبة” كاستثناء لم يذكره النص، فقيل: الآية مؤقتة قبل التوبة.
ثم نُقل معنى “ينكح” إلى “يطأ”، فتحوّل التحريم من حكم شرعي إلى توصيف اجتماعي، وكأن النص يقول: “الزاني لا يجامع عادةً إلا زانية أو مشركة”.
بهذه العملية، تمّ تفريغ النص من محتواه التشريعي، وتحويله إلى عبارة أدبية أخلاقية لا تُلزِم أحداً.
لقد نجح التأويل – باسم الاجتهاد – في تحييد النص لصالح الواقع الاجتماعي والطبقي الذي أراد أن يحتفظ لنفسه بامتيازات الزواج والمكانة ولو على حساب العدالة الإلهية.
في مجتمعاتنا، نجد المفارقة الصارخة:
رجلٌ من عائلة ثرية يمارس الزنا مراراً، وربما يتسبب بحمل فتاة، ثم تتدخّل عائلته “المتديّنة” لتزويجه بفتاة عفيفة من أسرة شريفة، بينما تُدفَع الفتاة التي أُهينت إلى زواجٍ قسري من رجل فقير في منطقة بعيدة، بتمويلٍ من ذات الأسرة التي أفسدت حياتها!
إنها صورة متكرّرة في البنية العربية والإسلامية، حيث تتحوّل المعيارية الأخلاقية إلى طبقية، ويُفرَّق بين الزنا كـ“عار اجتماعي للمرأة” و“نزوة مغفورة للرجل”.
هذا ليس تديناً، بل إدارة مجتمعية للعار تحت لافتة الدين.
فالذكر الغنيّ يُغسل زناه بالمال والنسب، أما الأنثى الفقيرة فتُحرق بوصمةٍ لا تُمحى.
حين نقارن النص بالتطبيق، نكتشف أن التحريف لم يكن في كلمات القرآن، بل في مقاصده.
لم يُبدَّل الحرف، بل أُعيد تعريفه وفق مصالح المجتمع الأبوي.
أُنتج “فقهٌ” يبرر استثناء الذكور، ويُدين الإناث، ويمنح الأغنياء حصانة أخلاقية باسم التوبة، فيما تُحرم الفقيرات من أبسط أشكال العدالة.
إن هذا النمط من التأويل لا يحمي القيم، بل يحمي السلطة الذكورية والاقتصادية داخل المجتمع.
فالقرآن قدّم الزاني قبل الزانية في الآية، لأنه أراد تحميله المسؤولية، لكن المجتمع قلب الترتيب، وجعل الزانية هي الجانية وحدها.
الآية لم تكن دعوة إلى القسوة، بل إلى العدالة الأخلاقية:
أن يكون الزواج شراكة في الطهارة كما هو في الالتزام.
لكنّ المسلمين، عبر قرونٍ من الفقه السلطوي والذكوري، حوّلوا النص من ميزانٍ للعدالة إلى أداةٍ لتبرير الواقع، فبات “الزاني” يُزوّج كريماً، و“الزانية” تُصلَب معنوياً إلى الأبد.
إن الإصلاح لا يبدأ بتعديل النص، بل بإعادة قراءة النص بمنظور العدالة لا الأعراف،
ف حين يُصبح الغنيّ مغفوراً له بالمال، والفقيرة مدانة بالعار،
نكون قد أعدنا إنتاج الجاهلية بعباءة التديّن.

