صدى الواقع اليمني - تقرير: حسين الشدادي

شهدت محافظة الضالع جنوب اليمن مشهدًا أثار موجةً واسعة من الجدل والاستفهامات، حينما ظهر في مقطع مصوّر عدد من المقاتلين المنتمين للمقاومة الجنوبية وهم يتصافحون ويتعانقون مع مقاتلين حوثيين، في لحظة وُصفت بـ"المُفاجئة" تحت شعار "وطن واحد وقضية واحدة".
هذا العناق – الذي بدا ظاهريًا بادرة تصالح – لم يكن تفصيلًا عابرًا، بل شكّل صدمةً لدى شريحة كبيرة من اليمنيين، خصوصًا في الأوساط المقاومة للمشروع الحوثي، وأعاد إلى الواجهة أسئلة مصيرية حول طبيعة الحرب والسلام، وحدود التسامح، وحرمة الدماء التي سُفكت خلال السنوات الماضية.
مشهد يُراد له أن يُصدَّر كسلام... لكنه أقرب إلى العبث
العناق لم يكن عفويًا كما صوّره البعض، بل بدا وكأنه جزء من إخراج مُعدّ بعناية، الهدف منه إرسال رسائل معينة على المستويين المحلي والإقليمي. إلا أن الرسالة لم تصل كما أرادها من خطّط لها، بل جاءت عكسية، وولّدت تساؤلات مشروعة:
عن أي "وطن" يتحدث هؤلاء المتعانقون؟
وعن أي "قضية واحدة" يروّجون؟
وهل تم دفن آلام الشهداء وصرخات الجرحى والمهجّرين بهذه السرعة؟
وهل يُمكن القفز على كل الجرائم والانتهاكات تحت ذريعة السلام؟
الواقع يقول إن القضية اليمنية ليست خلافًا بين طرفين متساويين في الحقوق والمطالب، بل هي مواجهة وجودية مع مشروع عنصري سلالي انقلابي، يسعى لفرض حكم إمامي جديد بثوب "معاصر"، ويرفض التعدد والتعايش، ويؤمن بأحقيته الإلهية في الحكم والتسلط.
الضالع.. قلعة المواجهة أم بوابة التسوية؟
منذ انطلاق شرارة المقاومة ضد الحوثيين، كانت الضالع في مقدمة الصفوف، وقدّمت قوافل من الشهداء دفاعًا عن الكرامة والجمهورية. لذا، فإن مشهد التعانق فيها بالذات لم يكن عاديًا، بل حمل دلالات رمزية صادمة.
فكيف تحوّلت هذه القلعة الصلبة إلى مسرح لتسويق التفاهم مع جماعة لا تزال تزرع الألغام، وتقصف الأحياء، وتختطف المعارضين، وتنهب المرتبات، وتفجّر المساجد والمنازل في شمال اليمن وجنوبه؟
المعادلة هنا لا تتعلق بالمكان فقط، بل بوعي الناس وذاكرتهم الجمعية التي لا تقبل التزييف.
السلام الحقيقي لا يُبنى على النسيان
في تصريح لأحد الناشطين الحقوقيين في الضالع – فضل عدم الكشف عن اسمه – قال لـ"صدى الواقع اليمني":
"نحن لا نرفض السلام، بل نحلم به كل لحظة، لكن ليس بهذا الشكل المُهين. السلام الذي لا يقوم على الاعتراف بالجرائم، ومحاسبة الجناة، وتعويض الضحايا، ليس سلامًا، بل استسلام مغلّف بشعارات وطنية خاوية."
ويضيف: "كيف ننسى آلاف الشهداء والجرحى؟ كيف نتجاهل المعتقلين والمختفين قسرًا، والبيوت التي هُدمت على رؤوس ساكنيها؟".
مخاوف من طبخة سياسية تُعدّ في الخفاء
يرى مراقبون أن هذا المشهد ليس معزولًا، بل قد يكون مقدمة لمرحلة جديدة من "التسويات الرمادية" التي تُطبخ في الكواليس، بعيدًا عن أعين الناس وإرادتهم.
وتشير بعض التحليلات إلى أن هذه المصافحات قد تكون بترتيب غير معلن ضمن تفاهمات سياسية بين قوى جنوبية وقيادات حوثية برعاية إقليمية، تمهيدًا لإعادة رسم خارطة النفوذ والسيطرة في اليمن، بما يتناسب مع المصالح الدولية والإقليمية أكثر من مصلحة الشعب اليمني.
الحوثي.. لم يتغير
منذ بداية الحرب، لم يصدر عن الحوثيين أي مراجعة فكرية أو سياسية حقيقية لمشروعهم، ولم يعترفوا بأي من جرائمهم، بل يستمرون في فرض أجندتهم بالقوة، ويتعاملون مع خصومهم بوصفهم "عملاء ومرتزقة" لا حقوق لهم.
ولا يزال خطابهم الديني والطائفي قائمًا على فكرة "الولاية"، واحتكار السلطة والثروة، وتهميش الآخر، واستباحة دمه وماله.
فأي سلام يُرجى مع من لا يزال يعتبرك مجرد تابع أو عدو يجب سحقه؟
الذاكرة لا تُصافح القاتل
ما جرى في الضالع اليوم ليس سلامًا، بل محاولة لتزييف الوعي، وخلق "واقع بديل" يتجاوز جوهر الصراع، ويقفز فوق دماء الشهداء.
إن اليد التي صافحتكم اليوم، هي ذاتها التي فجّرت بيوتكم بالأمس، وستطعنكم غدًا بابتسامة.
نُريد سلامًا لا استسلامًا
اليمنيون يطمحون إلى السلام، نعم، لكنهم يرفضون أن يُفرض عليهم وهم بُلدان مدمّرة، وقلوب مثقلة، وحقوق منتهكة. السلام الذي نريده لا يُبنى على عناق مُتلفز، بل على المصارحة والمحاسبة والتسوية العادلة.
فنحن لا نريد حروبًا جديدة تُولد من رحم "سلام مزيّف"، ولا نريد أن يُستخدم شعار "الوطن الواحد" لتمرير مشاريع استعباد تحت عناوين مصالحة.
لذلك، فإن كل من يساوي بين الضحية والجلاد، بين الجندي الجمهوري والمليشياوي السلالي، يُهين ذاكرة الشهداء، ويخون الحقيقة.
ولا سلام على حساب الكرامة... ولا عناق مع اليد التي ما زالت تقطر دمًا.
إرسال تعليق