صدى الواقع اليمني - كتب : أيمن الطاهري

في لحظات التاريخ الفارقة تتجلى عظمة الشعوب وقدرتها على تجاوز جراحها نحو آفاق أرحب... هكذا كان الثاني والعشرون من مايو 1990 يوماً استثنائياً في ذاكرة اليمن حين التقت الإرادات وتعانقت الأحلام وتوحد شطران طال انفصالهما... كانت تلك اللحظة أشبه بولادة جديدة لوطن عانى طويلاً من شرخ هويته وكأن الجغرافيا استعادت انسجامها مع التاريخ والإنسان استعاد تصالحه مع المكان
الوحدة في جوهرها ليست مجرد اتفاق سياسي أو ترتيب إداري بل هي فعل وجودي عميق تتجسد فيه روح الانتماء وتتبلور فيه الهوية الجمعية... هي ذلك الخيط الخفي الذي ينسج من تباينات المجتمع نسيجاً متماسكاً ومن تعدد ألوانه لوحة متناغمة... هكذا كانت الوحدة اليمنية في لحظة ميلادها حلماً يتجاوز حدود السياسة إلى فضاءات الثقافة والوجدان وتطلعاً نحو مستقبل يليق بعراقة هذا البلد وعمق حضارته
لكن الأحلام الكبرى غالباً ما تصطدم بصخور الواقع القاسية... وها هي ذكرى الوحدة اليمنية تعود اليوم في ظل واقع مغاير تماماً لما حلم به اليمنيون قبل خمسة وثلاثين عاماً... تعود وقد تحول الحلم إلى كابوس والوحدة إلى تشظٍ والانسجام إلى تنافر في مفارقة تاريخية مؤلمة تستدعي التأمل العميق والمراجعة الصادقة
من حلم الوحدة إلى واقع التشظي
حين أُعلنت الوحدة اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990 كانت الآمال عريضة والطموحات كبيرة... كان اليمنيون يتطلعون إلى دولة ديمقراطية حديثة تنهض بالإنسان وتستثمر الموارد وتحقق التنمية المستدامة... كانت الوحدة في وعي الكثيرين بداية لعهد جديد من الاستقرار والازدهار وفرصة تاريخية لتجاوز إرث الانقسام والصراع
لكن الرياح لم تجرِ بما تشتهي السفن... فسرعان ما اصطدم مشروع الوحدة بتحديات جسام بعضها موروث من الماضي وبعضها وليد اللحظة وبعضها الآخر نتاج تحولات إقليمية ودولية... وبدلاً من أن تكون الوحدة بداية لمسار تصاعدي نحو بناء الدولة الحديثة أصبحت ساحة لصراعات النفوذ وتصفية الحسابات
حرب صيف 1994 كانت أول انتكاسة كبرى للمشروع الوحدوي حين تحولت الخلافات السياسية إلى مواجهة عسكرية دامية... ورغم أن تلك الحرب انتهت بانتصار عسكري لطرف على آخر إلا أنها تركت ندوباً عميقة في الجسد اليمني وزرعت بذور الانقسام التي ستنمو لاحقاً لتؤتي ثمارها المرة
ثم توالت الأزمات والتحديات الصراع في حروب صعدة والحراك الجنوبي والثورة الشبابية الشعبية في 2011 وصولاً إلى الانقلاب الحوثي في 2014 والتدخل العسكري من دول التحالف العربي في 2015 كل أزمة كانت تضيف طبقة جديدة من التعقيد وتعمق الشرخ في جدار الوحدة حتى وصلنا إلى المشهد الراهن يمن ممزق بين أطراف متصارعة وشعب يعاني أسوأ أزمة إنسانية في العالم
خارطة التشظي
اليمن المقسم
اليوم وبعد عقود من إعلان الوحدة يجد اليمن نفسه أمام واقع مرير من التقسيم الفعلي... فالخريطة السياسية والعسكرية للبلاد تعكس حالة غير مسبوقة من التشظي والانقسام تتجاوز في تعقيدها وخطورتها ما كان عليه الوضع قبل الوحدة
في الشمال تسيطر جماعة الحوثي (الإرهابية) على العاصمة صنعاء ومعظم المحافظات الشمالية مقيمة نظاماً سلطوياً يستند إلى مزيج من الأيديولوجيا الدينية والقبضة الأمنية... وفي الجنوب يسيطر المجلس الانتقالي الجنوبي على عدن وأجزاء من المحافظات الجنوبية رافعاً شعار استعادة دولة الجنوب... وفي الساحل الغربي تنتشر قوات "حراس الجمهورية" بقيادة "طارق صالح" مشكلة نفوذاً مستقلاً بدعم إقليمي... وفي حضرموت والمهرة تبرز سلطات محلية ذات استقلالية متزايدة تتداخل فيها المصالح المحلية مع النفوذ الإقليمي
أما الحكومة المعترف بها دولياً فتجد نفسها محاصرة بين هذه القوى المتنافسة محدودة النفوذ والسيطرة عاجزة عن بسط سلطتها على معظم أراضي البلاد... وفي ظل هذا المشهد المعقد تتعمق الأزمة الإنسانية ويزداد معها معاناة المواطن اليمني البسيط الذي يجد نفسه ضحية لصراعات لا ناقة له فيها ولا جمل
هذا التشظي ليس مجرد انقسام سياسي أو عسكري بل هو انعكاس لأزمة هوية عميقة وفشل في بناء مشروع وطني جامع وغياب لثقافة المواطنة والدولة الحديثة... إنه نتيجة طبيعية لعقود من السياسات الخاطئة والفرص الضائعة والتدخلات الخارجية والصراعات الداخلية
في معنى الوحدة ما وراء الشعارات
في خضم هذا المشهد القاتم تبرز أسئلة فلسفية عميقة حول معنى الوحدة وجوهرها... هل الوحدة مجرد شعار سياسي أم هي مشروع مجتمعي متكامل؟ هل هي قرار فوقي أم هي إرادة شعبية؟ هل هي غاية في ذاتها أم هي وسيلة لتحقيق غايات أسمى كالعدالة والتنمية والكرامة الإنسانية؟
الوحدة الحقيقية ليست تلك التي تُفرض بقوة السلاح أو تُعلن في خطابات رنانة بل هي تلك التي تنبع من إرادة حرة واعية وتتجسد في مؤسسات عادلة وتتجلى في ثقافة مجتمعية تحترم التنوع وتحتفي بالاختلاف... الوحدة الحقيقية هي التي تجعل المواطن يشعر بالانتماء والكرامة ويرى في الوطن حاضنة لطموحاته وضامنة لحقوقه
لقد أخفقت التجربة الوحدوية اليمنية في تحقيق هذا المفهوم العميق للوحدة... فبدلاً من أن تكون الوحدة مشروعاً لبناء دولة المواطنة والقانون أصبحت غطاءً لاستمرار نظام سلطوي يعيد إنتاج نفسه بأشكال مختلفة... وبدلاً من أن تكون فرصة لتجاوز الانقسامات التاريخية والاجتماعية أصبحت ساحة لتكريسها وتعميقها
المستقبل المجهول أي أفق لليمن؟
في ظل هذا الواقع المأزوم يبدو المستقبل اليمني محاطاً بضباب كثيف من الغموض والتساؤلات... هل سيستمر التشظي الراهن ليتحول إلى انقسام دائم؟ هل ستنجح الجهود السياسية والدبلوماسية في إيجاد تسوية تعيد لُحمة البلاد؟ هل سيتمكن اليمنيون من بناء مشروع وطني جديد يتجاوز إخفاقات الماضي ويستجيب لتحديات الحاضر؟
الإجابة على هذه الأسئلة ليست سهلة ولا يمكن اختزالها في تنبؤات بسيطة... فالمشهد اليمني شديد التعقيد تتداخل فيه العوامل الداخلية مع المؤثرات الإقليمية والدولية وتتشابك فيه الأبعاد السياسية مع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
لكن ما يمكن قوله بثقة هو أن أي حل مستدام للأزمة اليمنية يجب أن ينطلق من إعادة التفكير في مفهوم الوحدة ذاته... فالوحدة ليست قالباً جامداً يُفرض من فوق بل هي عملية ديناميكية تتشكل من خلال التفاعل المستمر بين مكونات المجتمع المختلفة... وهي ليست نقطة نهاية بل هي نقطة بداية لمشروع وطني متجدد
ربما يكون الحل في صيغة فيدرالية حقيقية تحترم خصوصيات المناطق وتطلعات سكانها وتضمن توزيعاً عادلاً للسلطة والثروة... أو ربما يكون في كونفدرالية تجمع بين كيانات ذات استقلالية واسعة ضمن إطار تعاوني مشترك... أو ربما يكون في مسار تدريجي يبدأ بمعالجة الأزمة الإنسانية وبناء الثقة ثم ينتقل إلى الترتيبات السياسية الأكثر تعقيداً
أياً كان الشكل النهائي للحل فإن جوهره يجب أن يكون احترام إرادة اليمنيين وتطلعاتهم نحو العيش بكرامة وأمان... فالوحدة الحقيقية هي تلك التي تخدم الإنسان وتحترم حقوقه لا تلك التي تضحي به في سبيل شعارات جوفاء
في انتظار الفجر
في ذكرى الثاني والعشرين من مايو يقف اليمنيون على مفترق طرق تاريخي... خلفهم تجربة وحدوية متعثرة وأمامهم مستقبل غامض المعالم... لكن رغم قتامة المشهد الراهن تبقى بذور الأمل حية في قلوب الملايين الذين يحلمون بيمن مختلف يمن يتسع للجميع يمن تسوده العدالة والكرامة والسلام
إن الليل مهما طال فلا بد أن ينجلي والفجر مهما تأخر فلا بد أن يبزغ... وفي انتظار ذلك الفجر يبقى على اليمنيين أن يتمسكوا بالأمل وأن يعملوا بصدق وإخلاص من أجل بناء مستقبل أفضل لأجيال قادمة تستحق أن ترث وطناً يليق بتضحيات أجدادها وطموحات أبنائها
قد تكون الوحدة اليمنية اليوم في أسوأ حالاتها لكن روح اليمن الحقيقية تلك التي تجلت عبر آلاف السنين في حضارة عريقة وثقافة غنية وشعب عظيم ستبقى حية نابضة تنتظر لحظة انبعاثها من جديد... وحتى ذلك الحين ستظل ذكرى الثاني والعشرين من مايو تذكيراً بحلم لم يكتمل وبفرصة ضاعت وبدرس قاسٍ يجب أن نتعلم منه لكي لا نكرر أخطاء الماضي في المستقبل
#أيمن_صلاح_الطاهري
إرسال تعليق