صدى الواقع اليمني – كتب: محمد محمد السفياني – محرر الشؤون السياسية في صدى الواقع اليمني
لا شك أن هناك ثلاثة أديان سماوية متفق عليها، وذُكرت في القرآن، وجميعها تلتقي عند إبراهيم عليه السلام. وقد أكدت هذه الديانات، وكل الكتب السماوية، القيم والتشريعات التي شملها الإسلام.
كانت اليهودية هي الديانة الكتابية الثانية بعد صحف إبراهيم، واستمرت حتى أنزل الله التوراة على نبيّه موسى، فحرّفها اليهود لتكون لباسًا حصريًا لليهودية. وبعدها أُنزِل الإنجيل على نبيّ الله عيسى، وهو كتاب سماوي مرجع النصارى، وبغض النظر عما شابه من تحريف، فقد أُنزل القرآن بعده على نبيّ الله محمد ﷺ، ليكون بيانًا لاكتمال الرشد الإنساني لتقبّل العقد السماوي، بعيدًا عن المعجزات المادية، إذ خوطب فيه العقل والفكر الإنساني، جامعًا وشاملًا.
وظلت هناك صراعات بين أتباع الديانة اليهودية والنصرانية، صراع قوي جدًا، حتى جاء مؤسس المسيحية البروتستانتية “مارتن لوثر” بكتابه “اليهود هم أبناء الله وأحباؤه وبنو عمومته”، وقال إن اليسوع كان يهوديًا قبل النصرانية، وهنا تأسست “اليهودية المسيحية”، فصاروا أشد ولاءً لليهود وأشد دفاعًا عنهم.
تمخض هذا الولاء بقيام بريطانيا بتبني إقامة دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المقدسة، تلا ذلك قيام أمريكا برعاية إسرائيل حتى يومنا هذا. مع أن الكنيسة الأرثوذكسية هي الكنيسة الشرقية الأقدم من الناحية الدينية، بل إن فرنسا عارضت قيام دولة يهودية في الأراضي المقدسة، وادّعت أن قيام دولة كاثوليكية هو الأولى والأحق.
في الوقت ذاته، نشأت الشيعة السياسية في ظل قيام الدولة الصفوية، وهناك فرق بين “التشيّع” وهو صفة محمودة، وبين “الشيعة السياسية” التي رأت أن الحكم محصور في بطن الحسين بن علي، بين من ادّعى سبعة، ومن ادّعى اثني عشر من أبنائه، أو من ادّعى أن الحكم حقٌ لكل من خرج شاهرًا سيفه ضد الحاكم.
وعندما رأت بعض الجماعات من مذاهب أهل السنة أن حكمهم مهدد، أنشأوا جماعات تحمل فكر “الإسلام السياسي”، بجواز الثورة ضد الحاكم الظالم، بعد أن حصروا الحكم في الخلافة الراشدة والتابعين لهم. ثم أسسوا قاعدة تقول: إن الصبر على جور الحاكم سُنّة أفضل من المخاطرة بفوضى ساعة.
وفي عام 2011م، عملت القيادة الأمريكية البريطانية على دعم الجماعات الإسلامية السنية بضرورة الانقلاب على الأنظمة العربية والإسلامية القائمة آنذاك. فتحمّلت تركيا عبء قيادة ما يُسمّى بثورات “الربيع العربي” لتستعيد الإمبراطورية العثمانية، فيما تحمّلت عدد من الدول العربية مسؤولية تمويل هذه الثورة والحملات الإعلامية.
لقد كان إخوان مصر يعلنون أنهم لن يشاركوا في الحكم، ولكن تصريحات البيت الأبيض دعتهم للمشاركة في الحكم، وعندما فشل هذا المشروع، وتعرض نظام أردوغان لثورة تغيير بدعم أمريكي، ذهبت إسطنبول للاتفاق مع طهران، وجمعت المحورين في محور واحد. وكانت القضية الفلسطينية هي أساس هذا الاتفاق، فقرروا دعم حماس، ووقّعوا اتفاقيات شراكة اقتصادية وعسكرية مع روسيا ومع الصين.
فتوسّعت روسيا في سوريا، واطمأن النظام السوري من عدم قيام تركيا بدعم المعارضة ضده، وتوسعت ساحات ما تُسمى بـ”المقاومة الإسلامية”: إيران، تركيا، سوريا، لبنان، غزة، في الوقت الذي كان فيه “المسيحيون الجدد” أو ما يُسمى بـ”الصهيو-مسيحيين” والبروتستانت، وهم طبعًا يتركزون في أمريكا وبريطانيا، ويقفون خلف ترامب بقوة.
كانت الأنظمة العربية قد تعرضت لضربة قوية بدعم من حكومة أوباما وبايدن، ونفذت إسرائيل مشاريع انشقاقات في الدول العربية، وأثارت “الفوضى الخلّاقة”، فقررت كل من إيران وإسطنبول دعم حماس لتوجيه ضربة عسكرية قوية لزلزلة إسرائيل، حتى يتم توحيد شعوب دول منطقة الشرق الأوسط تحت قيادة الدولتين.
كان كل ما يدور في المنطقة تحت الرصد الأمريكي الإسرائيلي، بما في ذلك الحضور السريع لأساطيل الغرب لحماية إسرائيل بعد “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر، وهكذا دمّرت إسرائيل غزة، ولا تزال تدمر وترتكب جرائم الإبادة، ثم قامت باغتيال قيادة حزب الله اللبناني بعد اغتيال قيادة حماس، واستخدمت قنابل لتدمير لبنان.
ثم همزت أمريكا لتركيا والأكراد لدعم “ثورة الشرع” في سوريا، وأيّد ذلك من السعودية وقطر، فيما سهّلت روسيا خروج الأسد من سوريا، مقابل دعم أمريكا لها سياسيًا في موقفها ضد أوروبا في أوكرانيا.
وظلت إسرائيل تستهدف الدول العربية من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق، حتى أصبح ميدان الصراع والنزال بين “اليهودية البروتستانتية” بقيادة ترامب ونتنياهو، و”الشيعة السياسية الإيرانية” بقيادة عباس عراقجي وتشكيلات الجيش الإيراني. ولأن كل طرف يدّعي أنه الأقرب والأحب إلى الله وأنبيائه، لا يمكن أن يعترفوا بأي هزيمة إطلاقًا، لأن الحكم بمنظور الأطراف حق إلهي، والحرب يقوم بها الرب، فهو الرامي والآمر، مما يجعل مؤشرات المعركة القادمة قريبة جدًا، ولن تطول الهدنة.
وسيظل البعض يسأل: لماذا قصف الإيرانيون قاعدة “العديد” في قطر، رغم أن قطر دولة داعمة لإيران وتركيا، وهي مركز الحوارات الأمريكية الإيرانية، وتُصرَف الأموال الإيرانية عبر بنك قطر، بل هي غرفة حوار مغلقة بين أمريكا والجماعات الإسلامية مثل حماس وطالبان وغيرهم؟
هناك من يؤكد أن الأيام القادمة ستشهد أعنف معارك “صراعات الأديان السياسية”، وقد تنبأ بهذا الصراع الرئيس الإيراني محمد خاتمي في كتابه حوار الحضارات، الذي أراد من خلاله إيقاف صراع الحضارات أو صراع “الديانات السياسية”، وتقديم مفاهيم جديدة للحضارات.
إن العالم اليوم يمر بأصعب مرحلة، تتحكم فيها لؤم الساسة وأدعياء الدين ورجال المال، بأحدث التقنيات والآلات العسكرية، من أجل رفع راية الحرب أولًا، وتحت رحاها تُدفن القيم والأخلاق والسلام، وتُوأد الحرية والعدالة والمساواة والإنسانية، في زمن يُفضَّل فيه “أثر المائدة” على القيم الحضارية والثقافية الجامعة للإنسانية.