صدى الواقع اليمني – كتب: عبدالاله الشرجبي
في مدنٍ منسية على هامش الخرائط، تُولد المآسي صامتة وتموت بلا جنازات… لكن تعز، تلك المدينة التي وُلدت من رحم الثورة، لا تموت بصمت، ولا تقبل أن تُدفن دون أن تصرخ. هي ليست مدينة عابرة في الجغرافيا اليمنية، بل سيدة التاريخ، حارسة الحرف، ومأوى الحلم، ومرآة وطنٍ أراد أن يكون جمهورية فصار جثة تبحث عن اسم.
ومنذ اشتعلت الحرب، لم تكن تعز مجرّد مدينة تقاوم، بل كانت تختزل الوطن كله في جسدٍ واحد: جريح لكنه واقف، جائع لكنه كريم، محاصر لكنه لا يركع. كانت قلب الجمهورية النابض، وشريانها الذي يضخ الحياة رغم الطعنات. غير أن الجرح هذه المرة أعمق… ليس بفعل رصاصة، بل بخنجرٍ جاء من الداخل، من أيديٍ كانت تُقسم أن تصون، فإذا بها تخون.
المدينة التي صمدت أمام الحصار، تتهاوى اليوم أمام عبث الطامعين، ممن توهّموا أن صمودها يمنحهم صكّ الوصاية، وأن الثورة التي تفجّرت من حناجر أبنائها يمكن أن تُختزل في صورهم وشعاراتهم. لا يجيئونك في تعز على ظهور الدبابات، بل يتسلّلون من نوافذ الحلم، يرفعون راية الوطن ويخفون تحتها وجوه السمسرة، وأنياب التمكين، وخرائط التمزيق.
هنا، لا يصطدم النضال بالموت فقط، بل يصطدم بما هو أشدّ فتكًا: النفاق السياسي، وخيانة الذاكرة، وتحويل الدم إلى سلعة تُباع في أسواق المزايدات. تعز، التي حلمت بدولة حديثة، استُدرجت إلى مستنقع اللا دولة، ووجدت نفسها بين أنياب المهرّجين السياسيين الذين يجيدون تزييف الشعارات أكثر مما يجيدون بناء وطن.
وما بين الخراب السياسي والانهيار الأخلاقي، ينهض السؤال الأكثر مرارة: من يسرق تعز باسم تعز؟ من يذبح الجمهورية بخطبةٍ عصماء عن الجمهورية؟ من يختبئ خلف اللافتات ليبني إمبراطوريته على أنقاض مدينة تقاوم حتى الرمق الأخير؟
نحن لا نكتب رثاءً لمدينةٍ تُحتضر، بل نكتب كشفًا لما يُمارس باسمها، دفاعًا عنها لا بكاءً عليها. نكتب لنفضح من دسّوا السمّ في عنقود كرامتها، من احتفلوا بجنازتها وهم يبتسمون أمام الكاميرات، من جعلوا من المأساة مشروعًا استثماريًا طويل الأمد.
وفي قلب هذا المشهد القاتم، تظل تعز وحدها تدفع الثمن. المواطن فيها هو الضحية الدائمة، يُذبح على مهل بسكين السياسة الصدئة، يُطحن بين رحى الجوع والخذلان، يعيش على فتات الأحلام ويُطالب أن يشكر جلاديه لأنهم لم يسحقوا عظامه بعد.
تغرق الأحزاب هنا في وحل الفساد حتى الآذان، لا فرق بين من يرفع راية الدين أو من يتغنّى بالثورة، فكلهم — وإن تظاهروا بالإنكار — شركاء في خيانة الجمهورية وتعز. يمتهنون المعاناة كوظيفة، يتاجرون بالكرامة كعملة، ويلوّنون الدم بعباراتٍ منمقة تُعرض في نشرات الأخبار.
الفساد في تعز لا يُمارس خفية، بل يُعرض على الأرصفة كسلعة شريفة، تُقام له الولائم، وتُخطب له الخطب، وتُمنح له الشرعية باسم المصلحة الوطنية. وفي هذا الجنون، يتوهم البعض أن له وحده الحق في تمثيل تعز، أو الحديث باسم الجمهورية، وكأنها شركة خاصة تُورَّث أو تُباع.
لكن الحقيقة، مهما تأخرت، تبقى أقوى من التزوير. هذا المواطن البسيط، الذي لم يبع قضيته، ولم يساوم بدمه، هو الوحيد الذي لم يخذل تعز. لم يحصل على منصب، ولا تصريح، ولا خطاب تهنئة. لكنه ظلّ واقفًا، يدفع الضريبة كل يوم، ويحلم بوطنٍ لا يخذله كما فعلت النخب.
وسيدرك الجميع، ولو بعد فوات الأوان، أن ما يحدث اليوم ليس إلا مشروعًا لاغتيال الجمهورية من الداخل. إن تعز التي قاومت الحصار والرصاص، تواجه اليوم أكثر أعدائها شراسة: الطامعين الذين يتحدثون باسمها وتاريخها ونضالها
ومع ذلك، لا تزال تعز تقف، رغم الكسر، رغم الجوع، رغم الخذلان. لا تنتظر بطلًا خارقًا، بل تنتظر لحظة وعي… لحظة نكفّ فيها عن دفنها تحت ركام الشعارات، وننزع فيها الأقنعة عن الوجوه الزائفة، ونعترف أن أكبر خيانة لها هي صمتنا.
سيكتب التاريخ أن تعز لم تخن أحدًا، لكن كثيرين خانوها. وستظل تمشي، بوجهٍ مبلّل بالدمع والكرامة، شاهدةً على زمن سقطت فيه الأقنعة، وبقيت الحقيقة وحيدة لكنها لا تسقط رغم هذا الكم الهائل من الخذلان لتبقى خالدة خلود الأرض والسماء.