جارٍ تحميل الأخبار العاجلة...
Responsive Advertisement

تعز : بين الأمل المفقود والخذلان المستمر

صدى الواقع اليمني - كتب:عبدالاله الشرجبي.

Published from Blogger Prime Android App
في تعز، لا تسأل عن الدولة ولا عن مؤسساتها ، فقد تحوّلت إلى شبحٍ يتجول في أروقة الوهم، وأزقة الخراب،
ترفع لافتة "حكومة" لكنها بلا حكومة ، تصدر بيانات كأنها تنعى نفسها وتأريخها وحاضرها ومستقبلها وهو لايزال في علم الغيب 
، وتترك المدينة نهبًا لتجار الحرب ومصاصي الأمل .
 في تعز، لا تُقاس الكارثة بعدد الضحايا، بل بعدد الذين ما زالوا على قيد الانتظار… انتظار دولة لا تأتي، وعدالة لا تجرؤ، وخدمة لا تُقدَّم إلا بثمن الكرامة.

هنا، في قلب الحالمة، تتعرّى النخبة، ويسقط القناع عن وجوه طالما ادّعت الوطنية. تتحول الخدمات الأساسية إلى مشاريع استثمارية، ويُباع العطش في مزادات الصمت، وتُطفأ الكهرباء عمدًا كي تشتعل جيوب المفسدين. كل شيء في تعز يُدار بمنطق العصابة لا بمنطق الدولة
 ومؤسساتها ، وكأنها ليست مدينة يمنية، بل "غنيمة" تُدار بشهوة النهب وصكوك الولاء.

تعز ليست ضحية الحرب فقط، بل ضحية من تاجروا بها باسم الحرب، ومن سرقوا منها حتى الهواء، ثم ارتدوا عباءة “المناضلين الشرفاء ،والعاملين الانقياء ” بينما كانوا ينسجون خيوط الخراب من داخل القصر وخارجه. ومن لم يعرف بعد، فليعلم: من يريد أن يفهم لماذا تتعفن الجراح في تعز ولا تُشفى، عليه أن يسأل: من الذي يحتكر الدواء؟ من الذي أطفأ النور؟ ومن الذي باع الماء وتاجر بقوت البسطاء ؟!

حين تتخلى الدولة عن مسؤولياتها السيادية، وتتوارى خلف عباءة العجز، وتكتفي بمظاهر رمزية لا تسمن ولا تغني من جوع، فلا تبحث بعيدًا، فأنت في تعز. مدينة لا تزال تدفع ضريبة الحرب، 
وتحمل جراح الجغرافيا، وتسدد فواتير النفاق السياسي، وتقاتل وحدها في الظل، دون دولة تحمي ظهرها، ولا مؤسسات تصون ماء وجهها.

تعز، الحالمة التي لطالما تغنت بها القصائد، تحولت إلى ساحة عبث مكشوف، تتقاسمها الجماعات والأحزاب ، وتستنزفها النخب، ويتسابق عليها تجار الحروب كما يتسابق الغربان على الجثث الميتة . مدينة منكوبة لكن دون إعلان رسمي، محاصرة لا من الخارج فحسب، بل من الداخل أيضًا؛ من أولئك الذين يبيعون مآسيها في بورصات الولاء، ويقايضون صبرها بخطابات جوفاء.

حين تنظر إلى واقع تعز، تكتشف أن الدولة فيها لم تعد أكثر من جمعية خيرية توزع الفتات، وتتباهى بتقديم المساعدات في حالات الطوارئ والكوارث والنائبات 
، بينما تقف عاجزة أمام مسؤولياتها وواجباتها تجاه المواطنين في تعز .
 تعجز عن تشغيل محطة كهرباء أو إصلاح أنبوب مياه. لقد أفرغت الدولة من مضمونها، ولم يتبقَ منها سوى شعارات قديمة ومكاتب متهالكة وقرارات لا تُنفذ.
وهي مشاريع خدمية كان الأولى أن تكون حاضرة حتى في وقت الحروب 
لم تعد الدولة مسؤولة عن توفير الكهرباء ولا عن مشروع المياه، ولا عن تأهيل الطرقات ولا رعاية المرضى. كل ما يخص "المواطن" بات خارج جدول أولوياتها. حتى الإنارة في الشوارع، إن وُجدت، فبجهود ذاتية لمبادرات فردية، وجهود مجتمعية 
 بينما تُنفق المليارات في حسابات خاصة لا تُراجع ولا تُراقب.

في تعز، تحوّلت الكهرباء من خدمة عامة إلى مشروع خاص يُدار بيد خفية ويتغذى على غياب القانون. " تُطفأ الكهرباء الرسمية عمدًا، كي تنشط تجارة الطاقة البديلة التي يسيطر عليها متنفذون وأباطرة حرب لا يهمهم إلا مضاعفة الأرباح.

هؤلاء لا يسمحون بأي مشروع حقيقي يعيد الحياة لمحطة عصيفرة، ولا يريدون لتعز أن تنهض من سباتها. فكل شمعة تضيء في بيت فقير تعني خسارة محتملة في جيوبهم، وكل خطوة نحو استعادة الكهرباء العامة تُعد تهديدًا مباشرًا لمشروعهم الرأسمالي الفاسد.

أما المياه، فهي حكاية أخرى من حكايات السطو المؤسسي. مشروع مياه تعز، الذي كان يومًا نموذجًا تنمويا يُحتذى به، صار رهينة لمصالح تجارية ومشاريع فردية. تم تدميره على مراحل، حتى أصبح المواطن يشتري قطرة الماء بسعر الذهب، بينما تذهب عائدات الوايتات والمحطات الخاصة إلى جيوب "الشركاء الخفيين" في السلطة.
دون أن تذهب إلى خزينة الدولة ريالا واحدا
العطش في تعز ليس قدَرًا، بل قرار. قرار بتجويع الناس مائيًا، وتجفيف آبار الصبر في صدورهم، كي يظلوا رهائن لدى حفنة من التجار الذين يملكون مفاتيح المضخات ويصيغون سياسات المدينة تحت مظلة "تعز لها وضع خاص".

عبارة "تعز لها وضع خاص" تحوّلت من توصيف لحالة استثنائية إلى ستار للتواطؤ، ومبرر للخذلان، وغطاء للنهب المنظم. تُستخدم هذه العبارة لتبرير كل إخفاق، والتستر على كل جريمة، وإبقاء المدينة في دوامة التهميش.

هل يعقل أن تبقى مدينة تعج بمئات الآلاف بلا كهرباء ولا ماء، بلا أمن ولا استقرار، ثم يخرج مسؤول ليقول ببرود: "تعز لها وضع خاص"؟! أي وضع هذا؟ أهو الوضع الذي يمنح القتلة حصانة؟ أم الوضع الذي يحوّل موظفي الدولة إلى متسولين؟ أم الوضع الذي يتيح لمليشيات متعددة أن تحكم وتتحكم دون أن تُسأل أو تُحاسب؟

رغم كل هذا، لا تزال تعز مدينة تقاتل من أجل الحياة. ما زال أهلها يزرعون الحروف على الحطام، ويبنون من الرماد بيتًا من كرامة. مدينة تُقهر لكنها لا تستسلم، تُخذل لكنها لا تخون. غير أن صبرها ليس أبديًا، ولا صمتها علامة رضا.

إن تعز لا تحتاج شفقة، بل عدالة. لا تحتاج صدقات، بل حقوقًا تُستعاد. لا تريد لجانًا جديدة، بل قرارات تُنفذ. تحتاج دولة لا تتعامل معها كملف سياسي أو جائزة حرب، بل كمدينة لها الحق في الحياة الكاملة، لا الحياة المشروطة بالمزاج السياسي وميزان الولاءات.
إن تعز ليست بحاجة إلى شعارات جديدة تُضاف إلى ركام الوعود، ولا إلى زيارات إعلامية تُجمّل وجه الخراب. ما تحتاجه هو اجتثاث جذري لعصابة المصالح التي حولت المدينة إلى شركة ربحية يديرها تجار موت، ولا يعرفون من الوطن سوى ما يدخل جيوبهم.

لن تنهض تعز ما دام اللصوص هم من يوزعون الأدوار، وما دام الصامتون يخيطون أفواههم بخيط الولاء. لن تُضاء المدينة ما دام القرار مرهونًا في جيوب "المتعهدين"، وما دامت الدولة مختطفة تتسوّل الشرعية من سماسرة الداخل و الخارج.

لقد آن لتعز أن تخرج من وضعها "الخاص" إلى وضع "الحق"، وأن تنتقل من منطق التبرير إلى منطق التغيير. فإما أن تعود الدولة بحقيقتها، لا بظلها، أو فلتقل الحقيقة: أن هذه المدينة تُدار خارج الدستور، وتُحكم بمنطق العُصبة، ويُقتل فيها الحلم كل يوم باسم "الخصوصية".

لا شيء أشد فتكًا من دولة تتخلّى عن مواطنيها ، ولا جريمة أكبر جرما من مسؤول يُجمّل الخراب بكلمة "الوضع خاص".
وتعز، التي صبرت كثيرًا، لن تصمت طويلًا...
فمن قلب الألم يولد الانفجار، ومن تحت الركام ينبعث السؤال الأخير:

إلى متى ستظل الحالمة تعاني القهر والبؤس والحرمان ؟!

Post a Comment

أحدث أقدم