صدى الواقع اليمني – كتب: عبدالاله الشرجبي

في تعز، لا تئن الأرض من وطأة الحرب فقط، بل من خيانة من ادّعوا حمايتها، وسرقوها وهي تنزف.
هنا، لا تُسمع طلقات الرصاص بقدر ما تُسمع قرارات النهب، وصفقات المحسوبية، وأصوات الكروش المنتفخة وهي تضحك على جوع المدينة.
تعز لم تسقط برصاص العدو، بل سُحقت بصمت الصديق، وتواطؤ القريب، وتقاعس المجتمع الدولي الذي يرى ولا ينطق، يعلم ولا يتحرك، كأنه شريك في الجريمة أو شاهد زور في جنازة مدينة اسمها: “ضمير اليمن”.
تعز اليوم ليست بحاجة إلى خطاب، بل إلى مقاومة من نوع آخر؛ مقاومة الفاسدين الذين اختبأوا خلف شعارات الثورة، ثم كشفوا عن أنيابهم فور أن وصلوا إلى خزائن السلطة..
يتجوّل الخراب في شوارع تعز دون أن يُخفي ملامحه. لا يخجل، ولا يتهرب من عدسة الكاميرا. يضحك في وجوهنا نحن الذين اعتدنا الصمت، ويقول: “أنا أقوى من الحرب… لأنها مؤقتة، أما أنا فدائم ما دامت العيون مغمضة والضمائر ميتة.”
في تعز، أصبح المستشفى أشبه بمسلخ، والمدرسة أشبه بمزرعة حزبية، والراتب مجرد نكتة سمجة يتداولها الموظفون على قارعة الانتظار. المديريات تُدار كما تُدار المزارع، وكل مسؤول يُعامل كرئيس دولة مصغّرة، يتبع لحزبه لا لوطنه، يأمر ويعيّن ويجبي الأموال، ولا أحد يجرؤ على سؤاله من أين لك هذا؟
لكن الكارثة لا تكمُن فقط في وجود الفساد، بل في أن تعز تحوّلت إلى حقل تجارب لتقنين الفساد، وتطبيعه، وتمريره كأمر واقع. لم يعد السطو على المال العام فضيحة، بل مهارة إدارية. لم يعد تزوير المناقصات جريمة، بل “ترتيب إداري.” لم يعد أبناء تعز ينتظرون الإصلاح، بل يتساءلون من التالي الذي سيلتهمه هذا الوحش؟
تعز تُسرق على الملأ، وتُغتصب معنويًا كل يوم، والمجتمع الدولي يكتفي بإرسال بيانات باردة لا تُغني من جوع، ولا تُطفئ نارًا. في مشهد مخزٍ، يبدو العالم وكأنه يقول لنا: “اقتتلوا، وانهبوا، وافعلوا ما شئتم، فقط لا تزعجونا بالشكوى.”
من يوقف هذا العبث؟ من يضع حدًا لهذا النزيف؟ أين صوت الضمير؟ أين الأحزاب التي كانت تصرخ قبل الحرب بمشاريع التغيير؟ أكلّ هذا الضجيج كان تمهيدًا لصمت مريب؟ أم أن تعز صارت بالنسبة لهم مجرد بئر نفط سياسي يُستخرج منه الولاء والمكاسب؟
أبناء تعز، إن لم تنهضوا، فستنهار المدينة أكثر. إن لم تفضحوا من ينهب، فسيُسرق كل ما تبقى. إن لم تشكّلوا جبهة شعبية تراقب وتحاسب، فستكونون شركاء في الجريمة بصمتكم. التاريخ لا يرحم الشعوب التي تبرر خرابها، ولا يغفر للمدن التي سكتت على من سرق حلمها.
يا تعز…
يا أم الحرف والثورة…
كفِّي عن تقديم التضحيات على مذبح اللصوص، وكفّي عن تبجيل الوجوه التي لا تعرف من الوطنية سوى أسمائها.
لم تعودي بحاجة إلى خطاب عاطفي، بل إلى قُبلة في الجبين من ابن مخلص، وصفعة في الوجه لكل فاسد.
ولا بد لليل الفساد أن يُكسر… ولو بصوت واحد يقول: “كفى!”
لن تُشفى تعز إن بقي الفاسدون في مواقع القرار، ولن تنهض إن ظلت النخبة تبيع صمتها لمن يدفع أكثر.
المدينة التي واجهت الحصار بالجوع، وكسرت القيد بالإرادة، لا يجوز أن تُهزم في معركتها ضد الفساد.
لن يُكتب لمستقبلها الحياة إلا إذا نطق أبناؤها بالحقيقة ولو كلفهم ذلك المواجهة.
فالخوف من الفاسد أخطر من الفاسد نفسه، والصمت على الظلم هو أول خطوة لشرعنته.
تعز لا تحتاج إلى صدقات أممية، ولا إلى دموع المراقبين الدوليين، بل تحتاج إلى ثورة داخلية…
ثورة ضمير، تخلع أقنعة النفاق، وتُسقط دولة الفساد، وتستعيد الكرامة من تحت ركام التواطؤ.
وحينها فقط…
ستعود تعز كما كانت: مدينة تقرأ، لا تتوسل، تكتب التاريخ لا تمحوه، وتولد من الرماد كما يليق بعاصمة الثورة.
لكن الخطر لا يقتصر على اللصوص، بل يمتدّ إلى أولئك الذين يلبسون ثوب المثقف ويتقنون فن التبرير، يحاضرون في النزاهة صباحًا، ويُجالسون الفاسدين مساءً. كتاب وصحفيون تحولوا إلى أدوات تلميع، يقايضون أقلامهم بلترات وقود أو فتات من موازنات الإعلام الحزبي. هؤلاء هم “الكمّامات الفكرية” التي تُخدّر الوعي وتغطي جثث الحقيقة بابتسامات صفراء.
في تعز، لم يعد المثقف يدوّن مآسي مدينته، بل يحذف ما يُزعج حزبه. لم يعد الصحفي يبحث عن الحقيقة، بل يُعدّها للتسويق. في مدينة كانت تُعرف بـ”أم الثورة”، باتت الكلمة تُباع وتُشترى، وصار الحياد خيانة إذا كان في مواجهة اللصوص.
ومن سخرية المشهد، أن من نهبوا تعز يرفعون لافتات “الحفاظ على مؤسسات الدولة”، بينما مؤسساتهم تُدار من داخل فيلات محصّنة، وحولهم حرس شخصي أكثر عددًا من موظفي الدولة ذاتها! هؤلاء لا يؤمنون إلا بدولة الجيب، ولا يفهمون من السلطة إلا ما يضخه البنك المركزي من فتات يلتقطونه مثل وحوش نهمة .
أما الميليشيات، فتلعب دور البطولة في مشهد العبث. تتقاتل على فتات السلطة، وتُوقّع اتفاقيات تقاسم النفوذ، لا لوقف القتال، بل لضمان استمرار النهب بـ”تنظيم”! كل فصيل لديه نسخته من تعز، وعَلَمه، وسجونه، ومناطقه التي يحكمها، بينما المدينة تموت كل يوم بفعل التمزق، كما تموت الأشجار حين تُنهش جذورها.
أي مدينة هذه التي يُقسم فيها القادة كذبًا باسم الوطن، وهم يتقاسمون غنائم الدمار؟
أي ضمير هذا الذي يُجامل فاسدًا لأنه من ذات “الجغرافيا السياسية”؟
أي أمل نرجوه إن كان الخائن يُكافأ، والمخلص يُحاصر، والصامت يُصفّق؟
يا أبناء تعز، لا تسمحوا للانهيار بأن يتحول إلى عادة. لا تجعلوا من الاعتياد على القهر فلسفة حياة. لا تنتظروا من الخارج أن يُنقذ مدينة ما زال أبناؤها يختلفون على أسماء اللصوص، لا على جرائمهم.
ثورتكم الحقيقية تبدأ حين تصبح الشجاعة في قول “لا” أكبر من الخوف من فقدان وظيفة، أو علاقة، أو مركز. حين لا يُصالح المثقف الفاسد، ولا يُسكت المواطن المقهور، ولا تُكافأ الولاءات الفارغة
ليست تعز تلك التي تُدوَّن في محاضر السياسة، ولا التي تُتلى في بيانات المجتمع الدولي المعلبة. تعز الحقيقية تختبئ خلف طوابير الماء، وتتوسد دموع الأمهات، وتصحو كل صباح على وجع المعلم الذي يدرّس أبناء الفاسدين دون أن يتقاضى شيئًا.
تعز ليست في خطابات النخبة التي تتقاتل على النفوذ، بل في صمت النساء الحالمات بنقطة ماء، في خيبة الأمهات المنتظرات أبناء لم يعودوا، وفي عيون الأطفال التي تدرس في ظلام بلا كهرباء ولا دفاتر.
تغيب تعز عن كل خريطة تُرسم، وتُهمل في كل خطة تُكتب، لأنها لا تُدرّ أرباحًا، ولا تملك سوى كرامة تُؤلم الفاسدين. إنها المدينة التي تُنسى لأنها لا تُجيد الرقص على جراحها، ولا تعرف التصفيق للسفلة.
وحدها تعز التي لم تُذكر… هي التي تستحق أن تُكتب.
تعز ليست مدينة من طينٍ وحجارة… بل من نارٍ وذاكرة.
مدينةٌ تفوح منها رائحة الخبز والبارود، وتتشظى فيها الحياة بين رصاصة خائنة وابتسامة تقاوم السقوط.
لقد طُعنت تعز لا من خاصرة العدو، بل من ظهر الرفيق؛ من لسان المزايد، وجيب التاجر، وكرسي المسؤول.
ذُبحت على مهل، لا بالسيف، بل بالإهمال، بالكذب، وبالخطابات التي تُغني للمأساة وهي تشرب نخبها.
ومع ذلك…
لم تنكسر. لم تركع. لم تساوم.
فاحذروا تعز إذا غضبت،
واحذروا صبرها إذا نفد،
فهي لا تُجيد الانتقام، لكنها تُجيد إسقاط الأقنعة.
تعز ستنهض، ليس لأن أحدًا أنقذها،
بل لأن في قلبها امرأة لم تيأس،
ورجلاً لم يخن،
وطفلاً يحلم بمدينة لا ينام فيها الضمير..تعز ستنهض…
لا بفضل من يحكمها،
بل رغماً عنهم
🔗 رابط مختصر: