صدى الواقع اليمني – كتب: محمد عبدالجليل السوائي
نحن نعيش الحياة… أم أن الحياة هي من تعيشنا؟ سؤال لا يُطرح من فراغ، بل ينبثق من جوف المعاناة، من قلوب امتلأت وجعاً حتى ضاقت بها الأرواح. نعيش وكأننا أحياء بلا حياة، نُحرك دون إرادتنا، تجرّنا الأيام كما يشاء من يتحكمون بمصائرنا، لا كما نشاء نحن. تعبنا، والله تعبنا، ومَللنا حتى سئمنا الصبر ذاته، فقدنا الإحساس ببهجة الحياة، بعدما تحولت إلى ميدان قاسٍ تتراقص فوق رؤوسنا فيه كل الأزمات، وتتلاعب بنا كما يتلاعب ثور هائج برجل أعزل لا قدرة له على المقاومة.
أصبحنا نعيش تحت رحمة أوهام، وخلف واجهات سياسية براقة تخفي خلفها خرابًا وفسادًا عميقًا. ما نعيشه ليس شحًّا في الموارد فحسب، بل شحًّا في الصدق والإخلاص، شُحًّا في الرجولة السياسية التي تقف إلى جانب شعوبها وقت المحن. نحن نفتقر إلى قيادة صادقة حقيقية، لا تلك التي تكتفي بالظهور في منصات الإعلام، تنشر منشورات وتغرد تغريدات، وتزين الواقع بالكلمات، بينما الواقع ذاته ينهار أمام أنظارنا.
معظم من تسلّموا زمام الأمور، لا يملكون من الفعل شيئاً إلا ما يُكتب على المواقع، يلمعون صورتهم أمام الكاميرات، لكنهم غائبون تماماً عن ميادين العمل الحقيقي. أين هم على الأرض؟ أين هم من صوت الجائع؟ من دمعة الأم التي لا تجد شيئًا تقدمه لأطفالها؟ أين هم من الشاب الذي أنهكته البطالة حتى غابت ملامح مستقبله؟ لا نجدهم إلا حين يطلون علينا بتصريحاتهم الباهتة، أو حين يصورون زياراتهم الرمزية، التي لا تقدم ولا تؤخر شيئاً في حياة المواطن.
وإذا وُجد مسؤول شريف، يحمل في قلبه ذرة إخلاص وذمة، ترى الأيادي الخفية تتسابق لإسقاطه، يُستبعد، يُقصى، يُجرد من منصبه، ويُترك على الهامش، وكأن النظام بات لا يقبل إلا المتسلقين، وأصحاب المصالح، وأرباب المفسدة. وهنا لا نستطيع أن نفهم إلى أي وجهة يريد هؤلاء جرّ البلاد؟ وإلى أي مصير يريدون إيصال هذا الشعب المقهور؟ كأن الأمر كله مقصود، وكأن المعاناة جزء من مخطط مرسوم، لا صدفة عابرة.
الشعب لم يعد صامتاً، النساء خرجن إلى الشوارع، يطالبن بحقوق أساسية، لا امتيازات. المواطن يئن تحت وطأة فقر فاحش، وبطالة متوحشة، تنهش كبده وكبَد أسرته، وكل منابر التواصل أصبحت ساحات مناشدة واستغاثة، ولكن لمن؟ لمجموعة لا تهتز لها شعرة، لا تتحرك فيها ذرة، كأن قلوبهم أغلقت، وكأنهم أصنام لا تحس، لا تسمع، لا تبصر.
الشعور بالقهر يتعاظم، والإحساس بالخذلان يفوق كل تصور. ما نعيشه اليوم هو عار تاريخي، ووصمة لا يمحوها الزمن، عار أن يتحول المواطن إلى متسول في وطنه، وعار أكبر أن يكون الحاكم يتنعم بخيرات هذا الوطن على حساب ذلك المواطن. أموال الدولة تُنهب، وتُحوَّل إلى عقارات واستثمارات خاصة، والفنادق الفارهة في الخارج أصبحت مقرات دائمة لبعض من يسمّون أنفسهم قادة، بينما في الداخل تُزهق الأرواح جوعاً، وتموت الكرامة ألف مرة كل يوم.
ما يثير الغصة أكثر، أن هذا هو الحال في المناطق التي يُفترض أنها تحت ظل “الشرعية”، فكيف هو الحال إذًا في المناطق التي ترزح تحت سطوة المليشيات الحوثية؟ هناك المأساة مضاعفة، القهر أكبر، والحرية معدومة. من يحكم هناك لا يعرف من الدين إلا شعاراته، يتدثر بعباءة الدين ليحكم كما يشاء، ويفرض سلطته على الناس باسم الولاية. يأخذ لقمة الجائع بالقوة، يسلب مال اليتيم دون رحمة، ينهب كل ما يمكن نهبه، ويجعل من المواطن عبداً ذليلاً يسبح بحمد “رب مران”.
في تلك المناطق، أصبح حتى من يحاول البقاء بصمت، مطاردًا، لأن السكوت لم يعد كافيًا في نظر المليشيات، بل يجب أن تسبّح باسمهم، وتؤمن بخرافتهم، وتنحني لطغيانهم. وكل من لم يفعل، يُسجن، يُعذب، يُهان، وقد يُغيب نهائياً. وما يزيد المأساة ألماً، أن هذا المواطن المغلوب على أمره، ينتظر الفرج من حكومة “الشرعية” التي تعيش في سبات عميق، عاجزة حتى عن توفير أدنى الاحتياجات لمواطنيها.
متى سيستيقظ المسؤولون؟ متى يفهمون أن الناس لم تعد تحتمل؟ أن صبرهم شارف على النفاد؟ متى يدركون أن أبناء هذا الوطن، الذين يرزحون تحت نير المليشيات، ينتظرون منهم لحظة تحرير؟ لحظة كرامة؟ لحظة حقيقية يعاد فيها الاعتبار للوطن والمواطن؟ إن تأخرتم، فلن تنتظركم المآسي، بل ستتفاقم، وسيسجل التاريخ أنكم تخليتم عنهم، وعنّا جميعًا.
نحن لا نطلب المستحيل، لا نحلم بأبراج من ذهب، ولا بمشاريع خيالية، كل ما نريده أن نعيش كما يعيش البشر في هذا العالم، نطلب لقمة عيش شريفة، نطلب تعليمًا لأطفالنا، نطلب علاجًا لمن نحب، نطلب وطنًا لا يهيننا، ومسؤولين لا يخونون الأمانة. فهل هذا كثير؟
نرجوكم أن تنظروا إلينا بعين الرحمة، بعين الحق، بعين الوطن. لا نرجو نظراتكم إلى حساباتكم البنكية، إلى مصالحكم الخاصة، إلى مقاعدكم في المؤتمرات الخارجية. أنقذونا، أنقذوا ما تبقى من وطننا، وما تبقى من أرواحنا. فالأمل لا يزال معلقاً بكم، لا بغيركم، وثقتنا رغم كل شيء، لم تنطفئ بعد.
فهل ستخونون هذه الثقة؟ أم ستكونون على قدر المسؤولية؟ الجواب لديكم، وسيُكتب بالتاريخ، إما بحروف من نور، أو بلعنة لا تزول.