صدى الواقع اليمني – تقرير: حسين الشدادي
شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولاً استراتيجيًا لافتًا مع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توجيه ضربة عسكرية للمفاعلات النووية الإيرانية، باستخدام القاذفات الأمريكية المتطورة “بي-2 سبيريت”. جاء هذا القرار بعد ترقب كبير وضغط إسرائيلي متزايد لدفع واشنطن إلى التدخل المباشر في الحرب الدائرة حاليًا بين إسرائيل وإيران. هذا التقرير يهدف إلى تحليل الدلالات الاستراتيجية الكبرى لهذا التدخل الأمريكي وتأثيره المتوقع على المشهد الإقليمي والدولي.
مأزق إسرائيلي وضغوط على واشنطن
لم يتمكن الطيران الحربي الإسرائيلي من تحقيق أهداف القضاء الكامل على البرنامج النووي الإيراني، وخاصة مفاعل فوردو. وجدت إسرائيل نفسها في مأزق كبير، مع تزايد المخاوف من مغبة إطالة أمد الحرب مع إيران. صور سقوط الصواريخ الإيرانية في العمق الإسرائيلي، والتكلفة المادية العالية للتصدي لهذه الصواريخ، واستنزاف الاقتصاد الإسرائيلي في هذه الحرب، كلها عوامل دفعت تل أبيب لممارسة ضغط واضح على الرئيس ترامب للتدخل، في محاولة لتوجيه “الضربة القاضية” في جولات الصراع.
حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وصقور الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة تصوير مهمة القضاء على البرنامج النووي الإيراني على أنها ليست عصية كما يتصور البعض، وأن النظام الإيراني هش للغاية ولن يستطيع الدخول في حرب شاملة ضد المصالح الأمريكية في المنطقة. يبدو أن ترامب يعتقد أيضًا أن ردة فعل إيران ستكون شبيهة برد فعلها عندما اغتالت القوات الأمريكية القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني خلال ولايته الرئاسية الأولى؛ حيث هاجمت إيران أهدافًا أمريكية محددة في المنطقة دون الدخول في حرب متهورة شاملة ضد الولايات المتحدة.
هذا التدخل العسكري الأمريكي في إيران ليس الأول من نوعه، ولكن يمكن استخلاص عدة دلالات استراتيجية كبرى لهذا التدخل سيكون لها تأثير عظيم في منطقة الشرق الأوسط.
الصراع الإسلامي الإسرائيلي: تحول جذري
تعتبر هذه المرة الأولى التي تدخل فيها دولة إسلامية – غير عربية – في الصراع العربي الإسرائيلي مباشرة، مستهدفة العمق الإسرائيلي للمرة الأولى منذ نشأة دولة إسرائيل في عام 1948. لقد انتقلت إيران الآن من مرحلة دعم الجماعات العسكرية المناهضة لإسرائيل إلى الدخول مباشرة في حلبة الصراع ضد إسرائيل. لقد أصبحت القضية الفلسطينية الآن فعلًا قضية إسلامية اُريقت فيها الدماء في طهران وغيرها من المدن الإيرانية الأخرى. هذا التحول يشير إلى توسع نطاق الصراع ليشمل أطرافًا جديدة بشكل مباشر، مما يعقد المشهد الإقليمي ويزيد من احتمالات التصعيد المستقبلي.
أراد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو استغلال حرب غزة استغلالًا يمكنه من السيطرة على منطقة الشرق الأوسط دون أي منافس إقليمي آخر. ولذلك، حرص منذ بداية الحرب في غزة على استهداف حزب الله في لبنان وتقليص مقدراته العسكرية بشكل كبير، مستفيدًا أيضًا من إزالة نظام بشار الأسد في سوريا – الحليف الاستراتيجي لإيران – ممهدًا بذلك الطريق للتخلص من البرنامج النووي الإيراني. لا شك أن تعويل نتنياهو على فوز الرئيس الأمريكي ترامب في الانتخابات الأمريكية لتحقيق أهداف إسرائيلية استراتيجية قد آتى أكله حين استجاب ترامب لدعوته بضرب المفاعلات النووية الإيرانية.
مسار المفاوضات والسياسة النووية الإيرانية
حرص الرئيس الأمريكي ترامب على الدخول في مفاوضات مباشرة مع إيران – استمرت حوالي خمس جولات – لكنها لم تثمر في الوصول إلى اتفاق حيال الملف النووي الإيراني. تجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس الأمريكي ترامب أبدى في البداية استعدادًا للقبول بفكرة استمرار إيران في عملية تخصيب اليورانيوم بدرجات أقل للاستخدام السلمي بشروط محددة. ولكنه في الفترة الأخيرة، مال إلى رأي الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو المطالبة بحرمان إيران من حق تخصيب اليورانيوم حرمانًا كاملًا، كضمان وحيد يمنع إيران من محاولات إنتاج السلاح النووي.
وعلى الرغم من تبني الحكومة الإسرائيلية حاليًا سياسة تغيير النظام في إيران، فإنه من المستبعد حاليًا أن تتبنى الولايات المتحدة الأمريكية سياسة تغيير النظام، كما حدث قبل حربها في العراق سنة 2003. يرغب ترامب رغبة كبيرة في إرسال رسالة واضحة إلى إيران تشير إلى أن ضرباته الجوية ضد مفاعلاتها النووية هي عملية اضطر إليها اضطرارًا بعد فشل المفاوضات بينهما. وعليه، سيحاول النظام الإيراني قراءة الواقع قراءة متأنية لاختيار أسلوب الرد على الضربات الأمريكية بناءً على دبلوماسية الأبواب الخلفية التي ربما بدأت الولايات المتحدة ممارستها حاليًا بالفعل؛ لإيصال رسالة واضحة إلى طهران تفيد بعدم رغبة الولايات المتحدة في تطوير الصراع العسكري بينهما أكثر من ذلك.
يبدو هذا واضحًا من رسالة الرئيس ترامب الأخيرة التي أخبر فيها بضرب المفاعلات الإيرانية، حيث ركّز على ضرورة البدء في عملية السلام الآن، وهي رسالة تحاول فتح صفحة جديدة مع إيران أكثر منها خطابًا لإعلان الحرب عليها – مثلما فعل الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش حينما بدأ ضرباته الجوية ضد العراق في مارس/آذار عام 2003.
لا شك أن هذه الهجمات الأمريكية الأخيرة ستجعل إيران أكثر حرصًا الآن مما مضى على المضي قدمًا لتطوير برنامجها النووي، وإنتاج السلاح النووي مهما كلفها ذلك من مشاق ومواجهات عسكرية. هذا قد يؤدي إلى سباق تسلح نووي محتمل في المنطقة، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار والتوترات الإقليمية.
ضعف النظام الإسرائيلي واعتماد متزايد على أمريكا
كشفت هذه الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل حاجة الأخيرة الملحة للدعم العسكري الأمريكي المباشر ضد الأهداف الإيرانية، وضعفًا أمنيًا خطيرًا في إسرائيل، مما يجعلها أكثر اعتمادًا على الولايات المتحدة الآن من قبل، وربما أكثر عرضة أيضًا للضغوط الأمريكية، خاصة متى ما قرر الرئيس الأمريكي ترامب إنهاء الحرب الدائرة حاليًا في غزة. لعل هذه هي الحرب الأولى في تاريخ إسرائيل التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية معها مباشرة لتحقيق أهداف مشتركة. سيكون لهذا التدخل الأمريكي المباشر لصالح إسرائيل آثاره المستقبلية، ربما في إحداث تقارب إسلامي عربي في المنطقة، مثل التقارب التركي السوري أو التقارب التركي المصري، كرد فعل على هذا الاصطفاف.
لقد أخطأت إسرائيل خطأ استراتيجيًا فادحًا في توسيع دائرة حربها في المنطقة، بدءًا من غزة إلى لبنان واليمن وسوريا، والآن إلى العمق الإيراني. لقد كشفت الصواريخ الإيرانية هشاشة الأمن الإسرائيلي، وأن التفوق التكنولوجي النوعي الإسرائيلي ليس كفيلًا وحده بجلب الأمن والسلام لشعبها في إسرائيل. ولأول مرة يجد المواطن الإسرائيلي نفسه – في تاريخ الحروب الإسرائيلية الطويلة في المنطقة – مهددًا في عقر داره في تل أبيب وحيفا وغيرهما من المدن الإسرائيلية. هذا الشعور بعدم الأمان قد يؤثر على الرأي العام الإسرائيلي ويضغط على الحكومة لإعادة تقييم استراتيجيتها الأمنية.
بوادر تغير الرأي العام الأمريكي
على الرغم من انشغال الرأي العام الأمريكي عمومًا بقضاياه المحلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعزوفه عمومًا عن الانفعال والانشغال بالقضايا السياسية الخارجية، فإن بعض الحروب الخارجية – مثل الحروب في فيتنام والعراق – قد تركت بصمات واضحة في توجهات الرأي العام الأمريكي. الغريب في الأمر ربما ستسهم الضربات الأمريكية الأخيرة ضد إيران في توحيد طرفين أيديولوجيين متناقضين للمرة الأولى في السنوات الأخيرة نحو هدف مشترك، وهو إنهاء الحروب الأمريكية نسبةً للتكلفة المالية العالية، خاصةً بعد حربي أفغانستان والعراق، وأثر هاتين الحربين في زيادة الدين الأمريكي العام والعجز في ميزانية الدولة لأكثر من عقدين من الزمان.
وجدت بعض الأصوات اليمينية المتشددة الرافضة للتدخلات العسكرية لأسباب اقتصادية بحتة، وكذلك التيار الليبرالي اليساري لدواعٍ إنسانية، أنفسهم مشتركين في هدف واحد يرفض أن تخوض الولايات المتحدة الأمريكية حربًا خارجية أخرى مدمرة مثل حربي العراق أو أفغانستان. لقد أحدثت الحرب في غزة هزة كبيرة في أعرق الجامعات الأمريكية مطالبةً بإنهاء المعاناة الإنسانية للشعب الفلسطيني في غزة. وبلا شك ستثير الضربات الأمريكية ضد إيران انتباه الرأي العام الأمريكي للآثار السياسية والمالية العالية لدعم دولة إسرائيل. ولعل النقاش الدائر حاليًا في بعض وسائل الإعلام الأمريكية المحلية حول دور الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ووقوفها مع إسرائيل، أمر لم يتعود عليه من قبل الرأي العام الأمريكي، مما يجعل تأثيره مستقبلًا أمرًا جديرًا بالاهتمام. هذا التغيير في المزاج العام قد يفرض قيودًا على السياسة الخارجية الأمريكية المستقبلية ويجعلها أكثر حذرًا في التدخلات العسكرية.
إيران وأوراقها المتبقية
ربما نجح ترامب في الوقت الراهن في امتلاك زمام المبادرة السياسية والعسكرية حيال إيران وضرب مفاعلها النووي في فوردو، إلا أن إيران ما زالت تمتلك الكثير من الأوراق السياسية، والقدرات العسكرية لإطالة أمد الصراع بينها وبين إسرائيل، الأمر الذي لن تستطيع إسرائيل تحمله. هذه الأوراق قد تشمل استهداف المصالح الأمريكية في المنطقة عبر وكلاء، أو زيادة الدعم للجماعات المعادية لإسرائيل، مما يحول الصراع إلى حرب استنزاف إقليمية.
إن هذه التطورات تضع الشرق الأوسط على مفترق طرق. فبينما تسعى إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة لتحجيم النفوذ الإيراني وقدراتها النووية، فإن إيران تظهر تصميمًا على الرد والحفاظ على خياراتها. التداعيات طويلة الأمد لهذا التصعيد لا تزال غير واضحة، ولكن من المؤكد أنها ستعيد تشكيل التحالفات الإقليمية وتؤثر على الاستقرار في المنطقة لسنوات قادمة. السؤال الأبرز يبقى: هل ستنجح دبلوماسية “الأبواب الخلفية” في احتواء هذا الصراع، أم أن المنطقة تتجه نحو مواجهة أوسع؟