صدى الواقع اليمني – كتب: عبدالاله الشرجبي



في كل تاريخ الأمم، كانت الأزمات تمتحن معدن الرجال، وتكشف عن زيف الشعارات، وتُخرج الطحالب من تحت ماء المجاملات الوطنية.
غير أن ما يحدث في تعز، ليس أزمة عابرة، بل سقوط أخلاقي متواصل، تتساقط فيه أقنعة النخبة كما تتساقط الاوراق  في خريف أخلاقي خانق.

في الفلسفة، يُقال إن الإنسان كائن أخلاقي، وإن الضمير هو البوصلة التي تهديه في ظلمة الحياة…
لكن يبدو أن بعض الكائنات في تعز، قد تخلّت عن بوصلة الضمير، وكسرت مرآة الأخلاق، وسلّمت نفسها لجشعٍ يفتك بالضعفاء كما يفتك الهواء الملوث بالرئتين المنهكتين.
إنهم تجار الأزمات… لصوص الحياة اليومية، الذين إن أُتيح لهم المتاجرة بالهواء، لما ترددوا لحظة واحدة في بيع الأنفاس للمعدمين بالتقسيط.

فمن باع الماء، وتاجر بالغاز، وأهان أبسط الخدمات، لن يردعه دين ولا ضمير، ولو وقف أمامه الأنبياء والصلحاء .
إنهم عنوان التفاهة في كتب التاريخ، وذروة الحقارة في سيرة المجتمعات، ورمز الخبث المزمن في أجساد الأمم المتعبة.
في مدينةٍ كتعز، حيث يُفترض أن تظل الكرامة عصيّةً على السقوط، يتحوّل أبسط الحقوق إلى امتياز، وتغدو الحياة اليومية معركة طويلة تُخاض ضد طوابير الانتظار لا ضد العدو. أن تطهو أُمّ طعامًا ساخنًا لأطفالها، أصبح أمرًا مرتبطًا بمزاج تاجر حرب، لا بمؤسسة دولة أو كيان مسؤول. في مدينةٍ كانت تمر فيها الأزمات ذات يوم كزوّارٍ غير مرغوب بهم، جاء من حوّلها إلى سكان دائمين، مقيمين بين البيوت، نائمين فوق القدور الفارغة، وساكنين في أعماق أرغفة الخبز المحروقة.

لم تعد المسألة مسألة إدارة فاشلة، بل منظومة متكاملة لتكريس القهر، حتى باتت الأزمات تُدار كما تُدار المسرحيات: سيناريو محبوك، أدوار موزعة، وجمهور محكوم عليه بالبكاء دون تصفيق. إن فتشتَ عن الغاز، ستجد أنك تفتش عن سلطة خفية تمسك بالخيوط كلها، وتعيد ترتيب الفوضى حسب خارطة مصالحها، لا حسب حاجة المواطن. الذين يسيطرون على الغاز هم أنفسهم من يتحدثون عن السيادة ويبيعونها في قوارير تهريب، وهم أنفسهم من يتحدثون عن التحرير بينما ينهبون ما تبقى من مؤسسات منهارة، وخدمات متهالكة، وأرواح شبه منطفئة.

هؤلاء، لو أتيح لهم أن يبيعوا الهواء لما ترددوا لحظة. من باع الماء، وتاجر بالكهرباء، وخزن قوت المواطن، لا يستحي من المتاجرة بأي شيء، حتى بأنفاس الفقراء. هم لا يرون في المواطن إلا زبونًا عالقًا في طابور طويل لا نهاية له، زبونًا يُجبر على شراء كرامته بالذل، ويدفع ثمن صموده من أعصابه وأيامه. بعضهم لم يكن يُعرف له اسمٌ قبل الحرب، وكان يمشي خجلًا بين الناس، فإذا به اليوم يجلس على موائد القرار، يوزّع الغاز والمهانة معًا، ويبتسم للكاميرات وقد نبتت في حسابه المصرفي أشجارٌ من دموع الناس وأوجاعهم.

في تعز، لم يعد الغاز يُستخدم للطهو فحسب، بل صار أداة للخنق الاجتماعي، وسلاحًا لتمزيق نسيج المدينة، وذريعة لنهب الفقراء تحت شعار الخدمة. بينما تقف امرأة مسنّة تحت الشمس في طابورٍ لا ينتهي، ينتشي لصّ الأزمات بسيارة فارهة اشتراها من وجعها. مشهدٌ تتقابل فيه الدموع والنبيذ، البؤس والأغاني، الجوع وأبواق الاحتفال.

أزمة الغاز ليست صدفة ولا عارضًا، بل مشروع استثماري دقيق، تُرسم ملامحه في الغرف المغلقة، وتُنفّذ تفاصيله على موائد الفقر، يبدأ بتضييق المعروض، ويمر عبر تبرير الأزمة بلوم “عدو خارجي”، وينتهي بتقديم حلٍ مدفوع الثمن، وكأن المجرم يعرض خدماته كمنقذ. وإذا انفجر المواطن غضبًا، اتُّهم بالتحريض، وإن صمت، قيل عنه إنه راضٍ ويستحق المزيد.

إنها ليست أزمة غاز فقط، بل أزمة أخلاق وانهيار ضمير. فهؤلاء الذين يتحكمون بالهواء والماء والنار، لا يوقفهم دينٌ ولا تحرجهم آية. هم عُصبة من لصوص، يلبسون ثياب المسؤولية، ويُخفون بين جيوبهم مخططات الخراب. لو كانت الأخلاق تُشترى، لاشتروها لتجميل وجوههم أمام الكاميرات، لكنهم لا يعرفون من الحياة سوى سوقها، ومن الناس سوى صبرهم.

تعز ليست غابة، وأهلها ليسوا قطيعًا يُساق دون وعي. هذه المدينة التي حملت الثورة على كتفيها لا يُمكن أن يُركعها حفنة من تجار الخراب. ربما تصبر قليلاً، لكن تاريخها لا يعرف الانكسار، وقد تنهكها الطوابير، لكن جراحها تولد القصائد، وربما تجوّع، لكن لا تبيع كرامتها مقابل أنبوبة. من أراد أن يعرف من يقتل هذه المدينة يوميًا، فليبحث عن الذين يتلذذون بالمعاناة، ويتنفسون الألم، ويتغذّون على الحصار. فهؤلاء لم يكتفوا بسرقة المال، بل امتد جشعهم إلى سرقة الحياة نفسها.

إنها مدينة تتنفس بشق الأنفاس، ولا تطلب شيئًا أكثر من أن تُترك لتعيش كما ينبغي.
فكفّوا أيديكم عن الغاز، عن الخبز، عن الهواء… ودعوا تعز تتنفس.
وحين تتحوّل قيادة الدولة إلى مجموعة مستثمرين بخدمات الناس وقوتهم، فاقرأ على الدنيا السلام، وعلى ما تبقى من خدمات المواطن الرحمة والرضوان.
حين تُدار البلاد بمنطق السوق، لا بمنطق المسؤولية، يصبح الفقير مجرد رقمٍ في دفتر الحسابات، ويُعامل المواطن كما تُعامل البضائع في المخازن: يُخزن حين يُراد له الصمت، ويُستدعى حين يُراد له التصفيق.

تعز، المدينة التي قدّمت ما لم تُقدّمه مدينة، والتي نزفت دون أن تتسوّل، ووقفت في وجه الموت وهي حافية إلا من الكرامة، كان يفترض أن تُكافأ لا أن تُعاقب، أن تُكرّم لا أن تُنهب، أن تُسقى لا أن تُخنق.
لكنهم، بدلاً من أن يردوا الجميل، صبّوا على أوجاعها المزيد من الجشع، وحوّلوها إلى حقل تجارب للخراب المنظم.
في مثل هذه المنظومات المقلوبة، لا يُطلب من المواطن إلا أن يتقن فناً واحدًا: أن يقتات الألم، ويبتلع الإهانة، ويوسّع صدره لتحمّل مزيد من الأزمات المتناسلة، التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد بشكلٍ أقسى وطابورٍ أطول.

هو المواطن نفسه الذي ظلّ يُؤمن – رغم كل شيء – أن الوطن ليس للبيع، لكنهم جعلوه يبكي في الطوابير، ويصلي أمام فرنٍ بارد، وينام وجعًا بجوار أسطوانة فارغة.
فهل من خجلٍ لمن لا يخجل؟
وهل من صحوةٍ في ضميرٍ لم يعرف يومًا كيف يصحو؟
لك الله يا تعز،
ولك صبرك النبيل، وأهلك العظماء، وتاريخك الذي لا يُشترى ولا يُباع.
يا لتعز… كم صبرت! وكم نزفت!
ذاك المواطن الطيب، المكسور على قارعة الانتظار، لا يملك سوى قلبه ليدفئ به أولاده، وأسطوانة فارغة تدور معه من حيّ إلى حيّ كأنها قدرٌ لا يُرد.
يعضّ على وجعه بصمت، ويبتسم للخذلان، بينما من يحكمه يتلذذ بتعميق ألمه، ويمد يده لا ليمسح دمعته، بل ليقايضها بثمن جديد للذل.
في مدينةٍ كانت يومًا رايةً للصمود، صار الطيبون وقودًا لمخططات العبث، يُسرقون من خبزهم وكرامتهم، ثم يُطلب منهم التصفيق للزعيم الملهم والمناضل الجسور صاحب السمو والفخامة في وطن كثر فيه الفساد ، وتوالت في فيه الأزمات،  ولانامت أعين تجار الحرب، وقادة الأزمات  .

🔗 رابط مختصر:

اترك رد