صدى الواقع اليمني – كتب: عبدالاله الشرجبي
في وطنٍ مُثخن بالجراح، تتشابه الوجوه وتختلف الرايات، لكن الضحية واحدة… المواطن.
ذاك الذي يعيش على هامش الدولة، وتحت وطأة المليشيا، وبين فكَّي كماشة لا ترحم.
في اليمن، لا يكفيك أن تكون يمنيًا لتحصل على حقوقك، بل عليك أن تمر باختبارات الإذلال، وأن تجتاز متاهات البيروقراطية، وأن تدفع من كرامتك ثمن وثيقة كان يجب أن تُمنح لك بوصفك إنسانًا لا “تابعًا”.
لقد صار السفر في هذا البلد أشبه ما يكون بمقامرة… لا أحد يضمن فيها سلامتك، ولا حتى وجهتك.
الجواز الذي يُفترض أن يكون حقًا سياديًا، تحوّل إلى أداة قمع، ووسيلة إذلال، وسوق سوداء تُباع فيها الحقوق وتُشترى فيها الكرامة.
هنا لا تبحث عن دولة، بل عن نافذة صغيرة تتنفس منها، ولا تفتش عن شرعية، بل عن موظف رحيم يختصر لك طريق العذاب.
في هذا المقال، نُسلط الضوء على مأساة لا يتحدث عنها الإعلام، لكنها تنخر في عظم المواطن كل يوم…
مأساة اسمها: “جواز سفر”.
وفي كل بلدان الدنيا، تُخاض الحروب وتُبنى التحالفات وتُرسم السياسات الكبرى من أجل مواطنٍ واحدٍ فقط… من أجل حمايته، وكرامته، وحقه في العيش بحرية وسلام.
في كل بلاد الله، تُعتبر الهوية صكّ انتماء، وجواز السفر بطاقة عبورٍ نحو الأمل.
إلا في اليمن… حيث تغدو الهوية لعنة، والجواز تهمة، والسفر مغامرة محفوفة بالإهانات، والمواطنة جريمة مكتملة الأركان.
في اليمن، الجواز ليس وثيقة، بل معركة.
رحلة الحصول عليه تمر عبر متاهاتٍ لا يعرفها إلا من تجرّع مرارتها.
وعوضًا عن أن يكون بوابة للعالم، صار قيدًا آخر يُشدّ على عنق المواطن، الذي لا ذنب له سوى أنه يعيش في وطنٍ يلوك الفوضى، وتعتاش عليه قوى لا يهمها سوى بقاء المواطن ذليلًا، يلهث وراء أبسط حقوقه.
جواز صنعاء يفتح أبواب العالم… نعم.
تحمله قيادات الحوثي بكل أريحية، تسافر وتتمشى، تجوب المطارات دون أن يعترضها أحد،
بينما المواطن البسيط يُستوقف في كل نقطة، ويُبتز في كل حاجز، ويُذلّ في كل معبر، حتى وهو يحمل جواز الشرعية نفسه!
إنه مشهد عبثي يفوق الخيال ، فبينما المليشيات تسافر بجوازات صنعاء بلا قيد، المواطن في مناطق الشمال يدفع ثمن الهوية مرتين: مرة في مصلحة الجوازات، وأخرى في الطريق.
تخيل أن تسافر بين مدينتين داخل وطنك، لتُفتش كما لو أنك جاسوس، تُسأل عن أوراقك كما لو أنك دخيل، ويُبتزك رجال نقاط التفتيش كما لو كنت بقرة حلوب في موسم الجباية.
الشرعية هنا لا تختلف عن الحوثي في أدوات الإذلال، كلٌ يُمارس سلطته على المواطن لا لخدمته، بل لابتزازه.
أما مصلحة الجوازات، فهي فصلٌ آخر من فصول المأساة.
لا دفاتر، لا طباعة، لا مواعيد، فقط أبواب موصدة وألسنة متجهمة، وتكاليف تتضاعف كلما طال الانتظار.
ومن لا يملك المال؟
يبقى عالقًا، مشردًا في وطنه، محرومًا من السفر، من العلاج، من الدراسة، من الحلم!
ثم تُفاجأ بأن قيادات الحوثي تستخرج جوازاتها من مناطق الشرعية نفسها، وبالدولار، وبلمسة زر، دون الحاجة للوقوف في طوابير أو التوسل لموظف غليظ الوجه.
أما إذا كنت مجرد مواطن عادي، فالجدران أعلى من أن تتسلقها، والبوابات أقسى من أن تفتح لك.
أي مهزلة هذه التي تجعل من وثيقة السفر سيفًا على رقبة المواطن، ووسيلة إذلالٍ بدل أن تكون وسيلة تنقل؟
أي عدالة هذه التي تفتح العالم أمام قادة المليشيا، وتغلق الأبواب في وجه البسطاء؟
ومع هذه المعاناة، جاء قرار وزير الداخلية برفض البطائق الشخصية الصادرة من مناطق سيطرة الحوثي، ليزيد الجرح اتساعًا.
قرارٌ لا يُطبق على قيادات الحوثي الذين يسافرون بجوازات صنعاء من مطار صنعاء نفسه، بل يُطبق على المواطن المغلوب على أمره، الذي لا يملك سوى تلك البطاقة التي تُثبت أنه موجود.
فجأة صار المواطن لا يُعامل بوصفه إنسانًا، بل بوصفه “شبهة”، وتُرفض معاملاته لأنه فقط يعيش في منطقة واقعة تحت سلطة الأمر الواقع.
أما القيادات الحوثية، فخارج الحساب، لا يُسألون، لا يُفتشون، لا يُذلون.
إن ما يحصل اليوم من تضييق على المواطن الشمالي، تحديدًا، بحجة “جواز صنعاء”، ورفض بطاقته، ليس سوى صورة أخرى من صور الانتقام الممنهج.
انتقام لا من الحوثيين، بل من الأبرياء الذين لا حول لهم ولا قوة، والذين يدفعون ثمن المعركة من كرامتهم وأعصابهم، ومن وقتهم وأموالهم وصحتهم.
وهنا لا بد أن نسأل:
ما دام جواز صنعاء يُقبل في أغلب دول العالم، فلماذا يرفضه من يزعمون أنهم “ممثلون للشرعية”؟
ولماذا تُرفض البطاقة الشخصية للمواطن، بينما يُسمح لقادة المليشيا بالتنقل والسفر دون قيد؟
لماذا لا يكون معيار التعامل مع المواطن هو إنسانيته وحقوقه، لا موقعه الجغرافي أو الجهة التي أصدرت وثيقته؟
لقد آن الأوان أن تكف الحكومة الشرعية عن معاقبة المواطن على جغرافيا سيطر عليها الحوثي.
فالوطن لا يُبنى بسياسات التمييز، ولا تُستعاد الدولة بإذلال المواطن.
إن مسؤولية الحكومة، إن كانت حكومة بحق، أن تُوفر لكل يمني جوازًا بلا عناء، وأن تُعيد لمؤسساتها هيبتها لا أن تفتحها لمن يدفع أكثر.
أيها السادة في الشرعية:
لا تحاربوا الحوثي بجوع المواطن، ولا تواجهوا الانقلاب بإهانة الناس، فأنتم بهذا لا تختلفون كثيرًا عمن تزعمون أنهم خصومكم.
وما دامت معركتكم لم تحرر المواطن من الذل، ومن عبث تجار الحرب فهي معركة خاسرة، وشرعيتكم منقوصة، وإن نالت اعتراف الخارج.
في النهاية، قد لا يُنهي هذا المقال معاناة المسافرين من أبناء الشمال،
وقد لا يُصلح ما أفسده سماسرة العبث المقدس ،
لكنه على الأقل… يكتب ما لا يُقال،
ويُطلق صرخة في وجه صمتٍ طويل…
صرخة تقول:
كفى إذلالًا!
فكرامة الإنسان ليست خيارًا سياسيًا، بل حقٌّ إلهيٌّ لا يجوز المساس به، لا باسم الشرعية ولا باسم “مليشيات صنعاء”.
إن احترام الإنسان لا يجب أن يكون امتيازًا يُمنح وفق الولاءات والانتماءات، بل واجبٌ تُبنى عليه شرعية الدول، وتُقاس به أخلاق الأنظمة.
والمواطن اليمني، أيًّا كان موقعه الجغرافي، وأيًّا كانت الجهة التي تُسيطر على أرضه، يظل أولًا وأخيرًا مواطنًا… لا علاقة له بهذه الحرب اللعينة التي مزّقت الوطن وشرّدت أهله وسرقت أحلامهم.
لقد آن الأوان أن نكفّ عن معاملة المواطن وكأنه تابع لطرف أو مرتهن لخيارٍ سياسي، وأن نعيد له ما سُلِب منه من كرامة، ونمنحه ما يجب أن يكون بديهيًا: الاحترام، والخدمة، والحماية.
ليكن جواز السفر تذكرة عبور لا علامة اشتباه، فجواز السفر الذي يُفترض أن يكون حقًا بسيطًا، تحوّل في اليمن إلى أداة تعذيب بيروقراطية، ومصدر ابتزاز ممنهج.
صار على المواطن أن يدفع كرامته قبل أن يدفع الرسوم، وأن يتوسل من يفترض أنه موظف في “خدمة الناس”.
أما مصلحة الجوازات، فبدل أن تكون مؤسسة سيادية تحفظ حق التنقل، تحولت إلى سوق سوداء، لا تعمل إلا بوساطة، أو رشوة، أو نفوذ.
إن اختزال الدولة في سلوك موظف، يجعل من الكرامة مسألة شخصية، لا حقًا عامًا.
وإذا لم تكن مؤسسات الدولة في خدمة المواطن، فما جدوى الدولة أصلاً؟
فالمواطن اليمني ليس طرفًا في الصراع، بل ضحية له.
وكل من لا يحترمه، لا يستحق أن يحكمه… ولا أن يتحدث باسمه.
احترموا المواطن… فقط لأنه إنسان.